لأصحاب النت الضعيف يمكنكم قراءة كل الرواية في هذا الفصل، استمتعوا.



مقدمة:


هذه قصة عن والداتي (جاسمين)، فتاة عادية في التاسعة عشر من عمرها التقت بشاب منشود كما يحدث في جميع القصص الرومنسية و لكن شيئاً مختلفاً و مفاجئاً قد حصل يجعل من هذه القصة مميزة عن غيرها.


أعلم أنكم قد تضحكون عندما أخبركم بها، أو إذا رويتها لكم كحكايةٍ واقعيةٍ، على الرغم من أنها قد تبدو قصة غريبةً إلا أنّكم لن تصدقوا عندما أقول أن كل كلمة منها صحيحة و قد حدثت بالفعل.


قبل أن البدأ بسرد قصة والدتي الغريبة عن المألوف لكم، دعوني قبل ذلك ذلك أخبركم بالقليل عنّا، و أقصد بكلامي نحن "المستذئبون".


أولاً ، شخصية المستذئب هي شخصية خيالية مصدرها أسطورة قديمة إبتدعت عن الرجل الذي يشاع أنه تحول إلى ذئب خلال اكتمال القمر، و الذي يتغذى على البشر ليشبع جوعه ثم يعود إلى شكله البشريّ عندما يبزغ أول شعاع للشمس.


و هذه معلومة خاطئة جزئياً حسب تجربتي الخاصة كمستذئبة، أولاً نحن لا نتغذى على لحوم البشر و الكلام الذي يشاع على أننا لسنا نباتيين خاطئ و لا صحة له من الأساس، و لكننا فقط نفضل اللحوم الحيوانية.


و تلك المعلومة الشهيرة حول تحولنا إلى ذئاب جامحة في الليل خلال فترة اكتمال القمر غير صحيحة حسبما مررت به، و لكن ما يحدث خلال اكتمال القمر أنّ غرائزنا تصبح قوية لذلك نتناول الكثير من الطعام مثلاً أو نقوم بالعواء ليلاً كثيراً.


و أيضاً يمكننا أن نتحول في أجزاء معينة من أجسادنا كالأيادي مثلاً، و نمتلك غرائز و خصائص مذهلة عندما نكون في شكلنا البشريّ، كالسرعة الكبيرة مثلاً و السمع الفائق و القدرة على رصد أضعف الروائح، و شيء آخر، عندما نتحول إلى ذئاب لا تتمزق ملابسنا إلى قطع صغيرة كما يظهر دائماً و لكنها ببساطة تصبح ضيقة أحياناً.


و الآن بعد معرفتكم لهذه المعلومات، سأترككم تستمتعون مع والدتي في قصتها الرومنسية الغريبة، و المليئة بالمنعطفات الحساسة و الدرامية التي ستجعلكم ترون عدة أشياءٍ من منظور آخر.


الفصل الأول:


بدأ كل شيء في ذلك الوقت عندما كانت والدتي طالبة في إحدى الكليات المحلية في أمريكا، بعد أن حصلت على منحة دراسية لتغطية معظم تكاليف دراستها ، و لكنها أيضاً كانت بحاجة إلى العمل بدوام جزئي لتغطية باقي تكاليف معيشتها.


كانت كأمثالها من ذويها طالبة عادية تطمح للتخرج بدون مشاكل و إيجاد عمل ثابت لتكسب قوت يومها، كانت تدرس العلوم المتعلقة بالنباتات حسبما أتذكر، عاشت في إحدى الشقق القريبة من مكان دراستها بسعر زهيد للشهر و كانت تزور منزل عائلتها المتبقيّة من حين إلى آخر خارج المدينة في أيام العُطل، و كانت أيضاً تعمل في أوقات فراغها بمجمع تجاريّ.


كانت تعيش أيّاماً روتينية إلى أن جاء ذلك اليوم الذي إستيقظت فيه بكسل من فراشها بعدما نظرت إلى المنبه و أدركت بأنها ستتأخر لا محالة، لذلك إرتدت شيئاً عشوائيا و أخذت حقيبتها لتخرج من شقتها و تكمل حياتها كأنه يوم آخر من تلك الأيام التي تتأخر فيها عن المحاضرة و تتلقى التوبيخ قبل حضورها، لكنها لم تعلم أن هذا اليوم لن يكون كغيره و سيكون نقطة ستقلب حياتها رأساً على عقب.


*****


بدأ كل شيء في ذلك الوقت عندما كانت والدتي طالبة في إحدى الكليات المحلية في أمريكا، بعد أن حصلت على منحة دراسية لتغطية معظم تكاليف دراستها ، و لكنها أيضاً كانت بحاجة إلى العمل بدوام جزئي لتغطية باقي تكاليف معيشتها.


كانت كأمثالها من ذويها طالبة عادية تطمح للتخرج بدون مشاكل و إيجاد عمل ثابت لتكسب قوت يومها، كانت تدرس العلوم المتعلقة بالنباتات حسبما أتذكر، عاشت في إحدى الشقق القريبة من مكان دراستها بسعر زهيد للشهر و كانت تزور منزل عائلتها المتبقيّة من حين إلى آخر خارج المدينة في أيام العُطل، و كانت أيضاً تعمل في أوقات فراغها بمجمع تجاريّ.


كانت تعيش أيّاماً روتينية إلى أن جاء ذلك اليوم الذي إستيقظت فيه بكسل من فراشها بعدما نظرت إلى المنبه و أدركت بأنها ستتأخر لا محالة، لذلك إرتدت شيئاً عشوائيا و أخذت حقيبتها لتخرج من شقتها و تكمل حياتها كأنه يوم آخر من تلك الأيام التي تتأخر فيها عن المحاضرة و تتلقى التوبيخ قبل حضورها، لكنها لم تعلم أن هذا اليوم لن يكون كغيره و سيكون نقطة ستقلب حياتها رأساً على عقب.


*****

دخلت والدتي المحاضرة بعدما وصلت بأعجوبة في الوقت المحدّد و أخذت مقعداً بجانب النافذة بعيداً عن باقي الطلاب لتنتبه جيداً، و بعد مدة ليست بطويلة دخل الأستاذ ليُلقي محاضرته المعتادة و مرّت كغيرها من المحاضرات، لكنها لاحظت وجود شخص غريب في فصلها يجلس بالقرب منها، كان يرتدي قميصا أبيض عادي ذو أكمام و كان جالساً كل الوقت بمفرده بعيداً عن باقي الطلاب مثلها، و الغريب أنه لم يكن لديه كتاب مدرسي ، و على الرغم من ذلك كان لا يزال يدون الملاحظات بإنتباه منذ بدأ الحصة، و عند إقترابها منه و سؤاله عن إخراج كتابه المدرسي قال لها ببساطة أنه لا يحتاجه.


في نهاية الدرس لاحظت أنه إرتجل من القاعة و لم يذهب لكي يقوم بتسجيل حضوره ، و قد افترضت أنه قد نسي ذلك، لذا قررت بعدها الذهاب إليه بسرعة و تنبيهه.


إنتهت من تسجيل حضورها في ثوانٍ و أسرعت إليه، نظرت من النافذة لتجده لا يزال في الحرم الجامعي لذلك أخذت أسرع طريق يؤدي للخارج و بعدما وصلت إليه أمسكت به من طرف قميصة قبل أن يستقلّ الحافلة و يذهب.


"المعذرة، و لكنّي أعتقد أنّك نسيت تسجيل حضورك، يمكنني الذهاب للحصول على وثيقة دخول لك إذا أردت" ، قالت له.


و لكنه أبقى ظهره مستديرًا ، لكنه بعدها أجابها بلطف : "لا تهتمي ، أنا لست طالبًا هنا، لقد أتيت لآخذ بعض الملاحظات ".


تنّهد و قد بدى على صوته الكآبة و الحزن ليُكمل كلامه :"لم يكن يجب أن أحضر من الأساس، لكن شكراً على لطفك".


أطلق صاحب الحافلة صوت البوق ليصعد إلى الداخل و يذهب، فأبعد يدها من قميصه ليكمل صعوده ، لكنها أمسكته مرة أخرى من معصمه و أوقفته لتُغلق باب الحافلة و ترحل ، لكنها تقدمت أمامه هذه المرة و نظرت في وجهه و قالت: "أنظر حتى لو لم تكن طالباً هنا ، فإن الدروس مهمة و لا تزال صعبة للغاية حتى مع وجود كتاب مدرسيّ ، و لابد أنّك تدرس في مدرسةٍ ما".


ثم أخرجت من حقيبتها نسخةً إضافية من الكتاب المدرسيّ و قالت:"لذا ربما يمكنك من الآن فصاعدًا استعارة نسختي الإضافية من الكتاب المدرسيّ! "


نظر إليها و قد بدت عليه ملامح الدهشة للحظات من تصرفها، و لم يُجبها بـ"نعم" أو "لا" ، لكنه إكتفى بالإبتسام و الرحيل رغم أن والدتي كانت قد أعطته الكتاب بالفعل.


خطى بضع خطوات ثم إستدار لها و قال: " شكراً على الكتاب و لكنني أخبرتك بالفعل أنني لا أحتاجه، أراكِ غداً إذا حدث و إلتقينا مجدداً".


ثم أكمل طريقه في الإتجاه المعاكس لوِجهتها، و قد تساءلت والدتي في قرارة نفسها عن لماذا هو غريبٌ هكذا.


*****


في اليوم التالي، وصلت والدتي مبكراً إلى الكليّة فأخذت مقعدها المعتاد بجانب النافذة و أخرجت أدواته لتدرس قليلاً حتى بدء المحاضرة و قد كانت تنظر بإستمرار إلى الباب منتظرةً ذلك الشاب لعلّه يأتي.


تبقت دقائق حتى بدء الدرس و قد تأخر ذاك الشاب عن الحضور ، و حينما أخذت نظرةً خاطفة من خلال النافذة رأته يركض إلى الصف ، فأسرعت لمقعده و تركت نسخةً من كتابها المدرسي هناك حتى يتمكن من استخدامه.


بعد وصوله بلحظات رن جرس بداية المحاضرة، فذهب و هو يلهث إلى المقعد الذي جلس فيه البارحة و قد لاحظ الكتاب هناك، فإستدار إلى والدتي لتغمز له و تعلو وجهه إبتسامة تنسيه كلّ تعبه.


بعد الدرس ذهبت والدتي إليه و قد سألته إن كان لديه وقت لمرافقتها إلى مكان ما و قد وافق بصدر رحِب، فرحت والدتي ثم قرروا الذهاب إلى مكتبة الكليّة للمطالعة معاً ، و لكن نظرًا لأن ذاك الشاب لم يكن لديه بطاقة هوية للدخول، كان عليهم التسلل ، كانت والدتي تعتقد أن هذا كان موقفاً مضحك ، لكنهم في الأخير لم يكتشفوا أمرهما في النهاية .


طوال فترة تواجدهما داخل المكتبة تبادلوا قليلاً أطراف الحديث و قد إستمتعا كثيراً و الغريب في الأمر أنهما إنسجمها مع بعضهما رغم أنهما غريبين لا يعرفان حتى إسميّ بعضهما.


*****


في طريق عودتهما ، أرادا أن يتعرفا على بعضهما البعض أكثر لذلك قررا الحديث عن بعضهما ريثما يصلان إلى وجهتهما، لكن والدتي لم تكن جيدة في هكذا أمور، "ما هو كتابك المفضل ، أين ولدت ، من تحب؟" توالت أسئلة والدتي الغريبة، هل كانت الأسئلة التي طرحتها عليه ساخرة، من يعلم.


توتر ذاك الشاب بعض الشيء ثم قال و هو يبتسم: "حسنًا، لكن قبل كل هذا ألا يجب علينا معرفة إسمينا؟ ".


" آه صحيح أنا آسفة على أسئلتي الغريبة، أنا فقط غير معتادة على التحدث مع الناس كثيراً، أو بالأصح عليّ القول أنني لم أتكلم مع شخصٍ منذ دخولي هذه الكليّة"، إعتذرت والدتي.


هزّ الشاب رأسه و قال: "لا داعي للإعتذار فلا مشكلة لدي حول طرحك تلك الأسئلة، إذاً أولاً ، لماذا اسمك هكذا يا (جاسمين) ؟"


" كيف لك بمعرفة إسمي؟ " قالت والدتي بدهشة.


" في الحقيقة لقد كان مكتوباً على غلاف كتابك المدرسيّ" أجاب و هو يبتسم.


إحمرّت وجنتاه من الخجل كيف لها أن تغفل عن شيءٍ بهذه البساطة، لذلك كانت والدتي حريصة على الإجابة على هذا السؤال البسيط و ألاّ تجعل نفسها محرجة مرة أخرى، تنهدت ببطء ثم قالت :"تم نقل والدتي إلى المستشفى أثناء فترة حملها لي لأن جسدها كان واهناً جداً و غير قادر على تحمل الحمل بي، لذلك كان والدي يقضي أغلب وقته في المستشفى أثناء زياراته لها، و قد لاحظ والدي وجود زهرٍ جميل ذو رائحة زكية ينمو في الخارج بجاتب نافذة الغرفة ، لقد إستمّر بالنمو وصولاً إلى داخل الغرفة رغم اختلاف الفصول و تقلبات الجوّ القاسية، إلا أنّه استمر بالنمو طوال فترة حمل والدتي لي، لذلك فكر والدي على الفور ، و قال لنفسه أنه يريد لابنتي أن تحمل إسم هذا الزهر، و تبتسم ابتسامة جميلة مثل هذه الكون الجميل حتى في أصعب الأوقات، هكذا جاء إسمي (جاسمين) -زهر الياسمين- "


نظر إليّ بملامح حزينة ثم قال: "هكذا إذا، حسناً ماذا حصل لوالديك، لقد كنت تتخدثين طوال الوقت بصيغة الماضي عنهما، لا داعي للإجابة إن كان هذا يزعجك".


تحولت ملامحها إلى الحزن قليلاً و أجابت: " كما قلت آنفاً جسد والدتي كان واهناً و غير قادر على تحمل الحمل فما أدراك بالإنجاب، لذلك توفيت بينما وُلدت أنا في ذات اليوم، و بالنسبة لوالدي فقد أخبرني جداي أنه مات بسبب ذبحة قلبية بعد شهر من وفاة والدتي، لقد شخّص الأطباء أنه نتيجة لإكتئاب ما بعد الصدمة، أحياناً أعتبر نفسي السبب في موتهما، لذلك كنت أعزل نفسي عن الآخرين معتقدةً أن كل من لديه علاقة بي سيختفي عما قريب".


صمتت للحظات و قد وصلا إلى مفترق طرقهما، فإبتسمت و قالت" لكن هذا كان منذ وقتٍ طويل أمّا الآن فقد تجاوزت الأمر، لقد وصلنا إلى مفترقنا أخبرني عن نفسك أكثر في المرة القادمة ".


قالت قالت لتلوّح له ثم ترحل بعدها، و قد لاحظ ذاك الشاب أن صوتها كان مجروحاً و كأنها تريد البكاء أو الصراخ لكنها كبحت كل شيء بداخلها، و الشيء الذي آلمه أكثر أنه لم يستطع قول شيء لها لمواساتها.


*****


في اليوم التالي لم يحضر ذاك الشاب إلى الكلية، لكنه ترك لوالدتي النسخة التي أعارته إياها من الكتاب المدرسي البارحة بمقعدها المعتاد، و قد ترك فيها ملاحظة يخبرها فيها أن تنتظره عند دار السينما بعد الدوام ليخبرها بشيء مهم.


بعد نهاية يومها الدراسي، ذهبت والدتي إلى المكان الذي أخبرها أنهما سيلتقيان به ، لكن عند وصولها لم يكن هناك أي أحد.


ظلّت منتصبة تنظر هنا و هناك لعلها تراه و انتظرت لساعات، حتى تلاشى قرص الشمس بين البنايات و أسدل الليل ستاره المُظلم ، و قد كانت ليلة باردة و مظلمة لا ينيرها ضوء النجوم.


كانت والدتي قد أخذت مقعداً في الأرض بجانب أحد الجدران و دفنت وجهها الصغير في ركبتيها لتدفئته، و بعدها بمدة وجيزة وصل أخيرًا و قد بدى عليه التعب، ثم قال: "(جاسمين) ، أنا آسف لقد تأخرت كثيراً و قد تركتك هنا في هذا البرد القارص تنتظرينني".


توقع منها أن تكون غاضبة منه و لكنها رفعت وجهها الذي بدى عليه النعاس و نظرت إليه لتطبع إبتسامة جانبية و تقول :"لا مشكلة، المهم أنّك أتيت في النهاية" .


"(جاسمين) ...؟ "، أردف لأنه إستغرب من مدى سرعة تفهمها الوضع و إبتسم ليمسكها من راحة يدها و يسحبها .


"ماذا تفعل؟"، سألت والدتي.


"ثقي بي، فقط أغمضي عينيك"، قام بالطلب منها.


نفّذت ما طلبه منها ليبدآ بالمشي و كأنه يقوم بتوجيهها إلى مكان ما، وصلت عند إحدى النقاط بعد مُدة عندما بدأت بالشعور أنهما يصعدان للأعلى و الجوّ يزداد برودة، قد يكونان يصعدان أحد الجبال.


بعد مدة ليست بوجيزة، توقفا عن التقدم ليقول لها: "حسنًا ، افتحيهما الآن! ".


عندما فتحت عينيها وجدت نفسها بمكان ما في قمم أحد الجبال القريبة، و عندما نظرت للأمام رأت مدينتها بالكامل و أضواء المحلات و السيارات تنير ظُلمتها، و عند رفع رأسها قليلاً تسنت لها فرصة رؤية القمر في تلك السماء المظلة كأنه لؤلؤة تنير الكون، لقد كان منظراً رائعاً كما قالت.


"يا للعجب، كم هذا رائع! إنه يبعث على الشغور بالراحة"، قالت والدتي.


"يسرُني أنه نال إعجابك لكنني لم أحضرك إلى هنا من أجل هذا"، قال لتنظر إليه والدتي بإستغراب ثم أكمل حديثه :"(جاسمين) ما سأطلعك عليه الآن هو شيء لم أخبر به أحداً قط، و لا أخطط لإطلاع شخصٍ غيرك به، لكن عديني أنّك ستتقبليني مهما كانت حقيقتي" .


بدت على والدتي الحيرة من كلامه الغامض عن حقيقته و ما إلى ذلك، ليضيف لها: "فقط أنظريّ".


رأته يرفع راحة يده أمام وجهه، ر كلما نظرت أكثر رأت أن اليد كانت تتغير ببطء، و تتحول بشكل غريب لا يصدقة العقل إلى مخالب و فراءٍ رماديّ اللّون، وعندما نظرت إلى وجهه و ملامح الدهشة لا تفارفها، وجدت أن الفراء قد غطى وجهه و ملامحه قد تغيرت أيضاً لتبدو وكأنها ملامح حيوان مألوف.


"إسمي هو (كارما) و الذي يعني القَدَر لقد بحثت عن هذا من أجلك قبل مجيئي بالمناسبة" قال ممازحاً.


تردد للحظات لكنّه إستجمع عزيمته و أكمل :"و أنا الفرد المتبقي من سلالة أشباه الذئاب اليابانية رمادية اللّون، هذه هي حقيقتي (جاسمين)، إذاً كيف أبدو؟"، سأل ذاك الشاب بصوت قد بدى عليه الخوف.


بالطبغ لم تكن والدتي خالية من الكلام ، لكنها كانت تهمس في قرارة نفسها ببطئ :"ذئب... ذئب... "


نعم بالفعل لقد كانت مصدومة، ليس لأنها إكتشفت حقيقته بل لأنها قد وقعت في حبّ مستذئب ياباني.


"(جاسمين)، هل أنت خائفة مني؟ حسنا لقد توقعت حدوث هذا الأمر بالفعل" قال (كارما).


تجمدت والدتي للحظات محاولة إستيعاب ما يحصل هنا، ماذا سيحدث لها هل سيلتهمها أم أنه سيقوم بغرز مخالبه في رقبتها و يقتلها ليذهب سرّه معها، كلها كانت إحتمالات واردة.


لم تعلم والدتي ماذا تفعل فهي الآن تحبه و سيكون من الصعب عليها تركه رغم الفترة القليلة التي قضياها معاً إلاّ أنه قد كان أول شاب يتسنى لها فعل الكثير من الأمور معه للمرة الأولى.


أرادت فقط أن تبتلعها الأرض في تلك اللحظة أو تقوم بالهرب منه و تتجنب الإلتقاء به مرة ثانية، لكنها وضعت راحة يدها على صدرها ثم هزت رأسها، و بدأت الدموع تهطل لا إراديًا من مقلتيها، ممزوجةً بمشاعر الحزن و السرور و الصدمة.


"لا.. إنّه جميلٌ جداً، فروُك، و أنا لست خائفة لأن هذا فقط ما تبدو عليه، و أنا أحبك رغم عيوبك"، قالت ليُصدم مما قالته و تقوم بالركض إليه ثمّ تغرس وجهها في حُضنه و تبدأ بالبكاء فوق فروه الدافئ، لقد كان ذلك أول حضن قد أسقطت دموعها عليه كما أخبرتني.


*****



الفصل الثاني:



و بعدها بأسبوعين تعرفت والدتي على حياة (كارما ) أكثر ، أخبرها أنه لا أقارب له من والديه، و أنه ترّبى على يد إحدى معارف والده عندما كان صغيراً بسبب موت والديه في حادث أليم و الآن هو يعيش بعيداً عنه، رغم أنه لا يتذكرهما جيّداً إلاّ أنه أخبرها أنه عاش أفضل أيام حياته معهما .


مرت الأيام و الأسابيع و تطورت العلاقة بين والدتي و الشاب المستذئب، أصبح يحضر لإصطحابها من الكليّة و كان يلتقيان كثيراً و يخرجان كثيراً مع بعضهما، و كان يقضيان وقتاً ممتعاً خصوصاً في كوخ (كارما) الذي كان في الجبل و قصصه حول محطات طفولته، و إتضح في الأخير أن حبهما لبعضهما كان متبادلاً من البداية.


*****


بعد شهر من الحادثة، أُصيبت والدتي بالمرض الشديد و أصبحت تمر بفترات قيء لا إرادية بدون إنذار و بعض الأعراض الغريبة ، فقررت الإستشارة و الذهاب إلى الطبيب، و عندما ذهابها أُجريت عليها بعض الفحوصات في إحدى الغُرف، توترت والدتي من رؤية الأطباء يتحدثون مع بعضهم و هم يرمقونها بنظرة بين الحينة و الأخرى، دخل الطبيب الغرفة و هو يحمل نتائج الفحص، تطلّع نحو والدتي ثم نزع نظارته و أخبر والدتي أنها كانت حاملاً ثمٍ ترك الغرفة.


انصدمت والدتي من الخبر، و خافت كثيرا و أُصيبت بالتوتر، لكنها كانت حريصة على إخبار (كارما) بالخبر حالما تستجمع شتات نفسها و تستوعب ما تمر به.


بعد أسبوعين قررت والدتي إخباره فذلك من حقه، لذلك قامت بدعوته إلى شقتها و عند وصوله كان قد لاحظ تعبها و خوفها ، و عندما أخبرته توسعت مقلتاه ليتجمد مكانه للحظات ثم انقض عليها وعانقها بإحكام ثم همس إليها بعبارة "شكراً لك".


كان من المفترض أن تكون خائفة حينها، و لكن في تلك اللحظة كانت مغمورة بالفرح و سعيدة كثيراً، رغم خوفها من الحقيقة إلا أن النظر إلى وجه (كارما) طمأنها أنها ستكون بخير و أنها ستتمكن من تجاوز هذه المحنة معه.


بعدها بلحظات ترك (كارما) والدتي ثم تقدم خطوة للوراء و أدخل يده في جيبه و أخرج قلادة فيها ناب صغير، و قال :"لقد كنت أخطط لفعل هذا الأمر في وقت لاحق و بظروف أفضل، و لكن بما أنه الوقت المناسب إذاً..." .


جثى على ركبته ثم رفع رأسه نحو والدتي، تنهد ليستجمع شتات نفسه ثم قال :"هل تقبلين بي زوجاً لك يا (جاسمين) في السراء و الضراء، في أفضل اللحظات و أقساها، و في كُل الأوقات المتبقية من حياتي".



نعم لقد طلب (كارما) يدّ والدتي أو يجب عليّ أن أناديه بـوالدي الآن، و لم تستطع كبح نفسها من البكاء، و في الأخير لم يكن لها الخيار سوى أن توافق بكل سرور.


*****


حاولت والدتي جمع شتات ما تبقى منها و محاولة استيعاب كل ما يحصل هنا، مستذئب، الحمل من جنين للمرة الأولى و الآن الزواج! نعم لقد قلَب ذلك اللقاء حياتها رأساً على عقب كما قلت سابقاً.


قبل أن يفعلا أيّ شيء آخر، قرر والديّ ترتيب أمورهما، في البداية عرّفت والدتي (كارما) بجديْها و قد لاقى إعجابهما، و قد أخبراهما لاحقاً بالوضع ، و بالطبع لم يصدقا الأمر في البداية و قد بدت عليهما الصدمة مما فعلاه، لكنهما في الأخير تركاها تفعل ما تريد.


بعدها قررت والدتي ترك دراستها رغم أنها كانت على بعد سنة دراسية أخرى من التخرج لكنها لم ترد أن يعلم أحد حول حملها ، و قررا أن ينتقلا للسكن في شقة وحدهما، و أن يلدا رضيعهما بنفسيهما و أن لا يخبرا أحد.


أصبح والدي يعمل ليتكفل بوالدتي و بالرضيع المنتظر، بالطبع كان الحمل بي صعباً على والدتي و كانت تبكي في بعض الليالي خوفاً من أن تموت بعد إنجابها لي، لكن والدي كان معها ليؤنسها في كل تلك الليالي، و في أول عيد ميلاد لها معه إشترى لها حمالة طفل و قد أسعد هذا والدتي كثيراً.


و في فصل الشتاء، عندما يسقط الثلج ليغطي الأشجار و الأراضي بحُلّته، و يجعلها كالبساط الأبيض الناصع، قام والداي بإنجابي في تلك الأُمسية بينما تساقطت الثلوج من السماء ، فسمتني والدتي بإسم (يوكينا) و الذي يعني أميرة الثلج، و لحسن الحظ أنها لم تمت.


كنت رضيعة بصحة جيدة بعد ولادتي رغم أن هذا قد سبب لوالدي بعض المشاكل إلا أن والدتي حملت من جديد، و في الربيع التالي في نفس الظروف، كان قد وُلد أخي الصغير ، كان يومًا ممطرًا لذلك سمته والدتي بإسم (راين) و الذي يرمز إلى المطر.


رغم أن تربيتنا كانت صعبة بالنسبة لوالديّ كونهما لازالا يافعين، إلاّ أنها كانت ممتعة بعض الشيء، لكن والدتي لم تعلم أن الحياة ستكشر أنيابها مجدداً و تقلب حياتها مرة أخرى.


*****


بعدها بوقت قصير من ولادة (راين) ، في إحدى الأيام نهضت والدتي في وقت متأخر على صراخ (راين) و لم تجد والدي معها في الفراش، أدركت والدتي أن والدي قد ذهب منذ الصباح الباكر و لم يعد، ذهبت لتفقد الغرف و وجدت أنه ترك حقيبة أمواله و لم يأخذها.


لم تكن تفكر في شيء حتى بدأت تمطر بغزارة و قد تأخر الوقت و قد خافت عليه، فحملتني أنا و (راين) ثم خرجت و بحثت في كل مكان عنه، وصلت إلى الجسر و نظرت من هناك و تجمدت في مكانها و إنهارت على ركبتيها عندما رأت ذلك المشهد.


رأت ذلك المشهد المرعب، جثة ذئب رمادي وسط الطريق السريع يتم سحبها إلى الشاحنة لقد تعرّض لحادث، أصبح وجهها شاحبا و مقلتي عينيها تضخمتا و إمتلأتا بالدموع، أسقطت مظلتها و نزلت الجسر ركضاً نحو الشاحنة ، وهي تصرخ على الرجلين الذين يضعاه في كيس كبير: "أرجوكم.. دعوه.. إنه لي... هذا ذئبي.." حتى فقدت صوتها و سقطت على الأرض و الناس ينظرون إليها بإستغراب.


لقد ابتعدوا عنها ظنًا أنها مجنونة، قامت والدتي بحضننا و بالبدأ بالبكاء و الصراخ تلك الليلة.


*****


بعد ذلك اليوم دخلت أمي في مرحلة من الاكتئاب، لقد اعتنت بنا بكل حيوية في الماضي و لكن عندما لم تعد كذلك أصبحت حياتها عسيرة، كانت تبكي عند ضريح صنعته لوالدي بعدما وضعت بطاقته عليه، فقد أخبرها مرة أن تقوم بهذا بعد وفاته وفق تقاليد عائلته.


في إحدى الليالي كانت تبكي و هي نائمة، و كان لديها ذلك الحلم الغريب، حلمت أنها كانت مستلقية في مرج من أزهار دوار الشمس، عندما نهضت رأت والدي من مكان ليس ببعيداً، بدا كما لو كان يقاوم الدموع ليكون قوياً اتجاهها، و لن تنسى والدتي أبدًا تلك الكلمات التي أخبرها بها، "(جاسمين) ، أعرف أنني تركتك في موقف صعب، و أنا آسف حقًا لأنني خذلتك... ".


بدأت والدتي في البكاء بعدما قال تلك الكلمات و أدار ظهره و بدأ بالإخفاء، "من فضلك لا تترك-"، استيقظت قبل أن تكمل جملتها .


و بدأت تحلم كثيراً بأنها تتجه نحو والدي في مناماتها، و لكن يبدو كما لو أنه استمر في الإبتعاد عنها، أخبرتني أنها لن تحاول الاستمرار في مطاردته ، لأنها أدركت أنه كان ميئوسًا منه.


في إحدى المرات استيقظت أمام ضريحه، و جلست ثم قالت: " أعرف ما الذي تعنيه، و أنا آسفة لأنني لم أكن قوية، و لكنني أعدك أنني سأربيهما بابشكل الصحيح."


*****


الفصل الثالث:



بعد ذلك لا أتذكر أن والدتي كانت مرتاحة بتربيتنا حقًا طوال العامين التاليين، لا أتذكر كل التفاصيل بالتدقيق لكنها قالت أن تربيتنا كانت أصعب شيء فعلته خصوصاً خلال ذلك الوقت العصيب.


عند بلوغي العامين من عمري، نمت أسانني و أنيابي بشكل سريع عن المعتاد، و بدأ الفرو في الظهور في جميع أنحاء جسدي و بدأت أركض على أربعة أقدام في أرجاء المنزل بينما (راين) كان لا يزال خجولاً و خائفاً من تصرفاتي ، لقد كنت مشاكسة، أحيانًا أكون غاضبًة أو حتى متحمسًة أكثر من اللازم و كنت أثير الفوضى كثيراً، كنت أركض في جميع أنحاء المنزل، و أمزق أي شيء يمكنني غرز أنيابي فيه.


حتى أن والدتي أخبرتني أنه ذات يوم في الحديقة عندما كنا أثناء نزهة على الأقدام ، بدأ كلب ينبح في وجهي ، و هربت منها كي اقوم برد النباح عليه و عادت بعدها للتو، و قد أمسكتني و عادت إلى المنزل لأن بدؤوا يحدقون بنا بعدما فعلت.


ولم يكن جماحي يقتصر فقط على النهار أيضا، في الليل أيضاً كناّ نسبب المشاكل لها ، كان (راين) يبكي و يصرخ حتى يرضع من ثدي والدتي، و لكنه كان يؤلمها و يرهقها لأنه كان يغرس أنيابه فيهما.


و أحيانًا عندما يكون هذا كثيرًا بالنسبة لها ، كانت أمي تنقع قطعة قماش في الحليب ، ثم تتركه يمصها حتى يعود إلى النوم مجدداً.


كان الجيران يشتكون طوال الوقت من صوت عوائنا و نباحنا الليلي و حتى صراخنا، في أحد الأيام ، جاء بعض الأشخاص للتساؤل عن سبب عدم قيام والدتنا بإعطائنا حقنات التلقيح لأبنائها أو الذهاب إلى مواعيد الفحص، و قد كانت هذه مشكلة كبيرة لها.


"عفواً يا سيدة (جاسمين) ، لكن هل أدركت أن أطفالك لم يجروا أي فحوصات ، بقدر ما تشير السجلات إلى أن أطفالك لم يولدوا حتى في المستشفى ؟!"، بدأت تلك المستشارة بطرح الأسئلة و الاتهامات على والدتي حتى أغلقت عليها الباب.


ظلت تحاول فتح الباب للعثور علينا و رؤيتنا و التحدث مع والدتي، "إذا لم توافقي على إجراء تحقيق في الأمر فسنتهمك بإهمال الأطفال و نأخذهم للميتم!" ، تلك كانت جملتها الأخيرة قبل أن ترحل و تدعنا و شأننا.


بالطبع لم يكن هذا إهمالًا لأطفالها لقد كانت ققط خائفة من أن يكتشفوا حقيقتتا و أخذنا منها ، لقد شعرت بالخوف من أن الأطباء سيلاحظون أننا لسنا بشريين تمامًا، و السبب في أننا لم نولده في المستشفى كان بسبب خوفها من أن نولد على شكل ذئاب.


و أذكر ذلك الموقف الأليم، عندما تعرضنا أنا و (راين) لتسمم غذائي و كانت والدتي محتارة من أخذنا إلى البيطري أو مستشفى الأطفال، لقد أخطأت عندما نسيت إخبار والدي عن كيفية تربيته، لكن في النهاية يبدو أن بعض المضادات الحيوية قد أجدت نفعاً.


*****


بعد الحصول على توبيخ من مالك الشقة ، قررت والداتي محاولة الابتعاد من تلك المنطقة نهائياً و أن تتوارى عن الأبصار و تختفي، و قد يمكن أن يكون الخيار الأفضل لنا.


أول مكان فكرت به والدتي هو مكان ما بعيدٌ عن الأنظار و في نفس الوقت لن يكون هناك الكثير من التغييرات الجذرية في حياتنا، و من خلال البحث ، علمت أنه مع نمو الذئاب ، فإنها تحتاج إلى مساحة كبيرة للركض و الإستكشاف، فقررت أن الجانب القطري (الريف) سيكون أفضل بالنسبة لنا جميعاً.


وجدت والدتي الكثير من المنازل أثناء بحثها ، و لكن المشكلة أنها ليس لديها مساحة للفناء الخلفي من أجلنا.


لذلك واصلنا الذهاب من هنا إلى هناك للبحث عن مكان ما، إلى أن وصلنا إلى المنزل الحادي عشر من سلسلة بحثنا، و كان الثاني عشر هو محطتنا الأخيرة.


حيث أدخلنا صاحب البيت إليه لنتفقده، و قد بدى عليه أثر الزمن الذي جعله هشاً و رثاً يشبه الأطلال، ثم قال :"حسناً ، قد لا يعد هذا منزلًا صالحاً للعيش بعد الآن ، لكنني أعتقد أنك توافقينني الرأيّ عندما أقول لك إنه واسع جدًا كما طلبت مني و تكلفته شبه مجانية".


نظرنا جميعًا بفضول إلى المنزل المنهار من الداخل و الخارج، ثم أكمل :"لا يبدو بالكثير ، لكن على عكس المنازل الأخرى التي قد تحصلين عليها من أمثاله فإن المياه جارية و الكهرباء متوفرة، كما أنه أنه يحتوي على حقول زراعة فارغة تركها أصحابه القدماء".


"و لكن كم من الوقت كان هنا؟"، سألت والدتي بفضول.


"لنرى ، تقريباً إذا حكمنا عليه من خلال مظهره ، ربما كان هنا قبل أن تكون هذه الغابة موجودة" أجاب الرجل بسخرية.


" كم يبعد أقرب بيت من هنا؟ " سألت.


"حوالي ثلث ساعة مشياً ربما" أجابها.


"حسنا إذا كنت جاهزة لرؤية الفناء تاليا ، يمكننا -" قال لكن والدتي قاطعته.


"سنأخذه ! " ، قالت بسعادة.


"حسـ- هل أنت جادة ؟!" قال بدهشة لكن والدتي ابتسمت على الفور كعلامة للقبول .


بمجرد الانتهاء من جميع الأعمال الورقية و إمضاء العقود و الاتفاق على التكلفة ، خرجت أنا و آمي للتحقق من المكان، كنت متحمسة جدًا، "هذا المكان رائع!" صرخت و أنا أركض في الفناء.


ركضت حول الحقول المجاورة لنا التي لا نهاية لها إلى أن نادت عليّ والدتي، لكن (راين) كان خائفًا جدًا من محيطه الجديد و إكتفى بالجلوس فقط في منتصف المنزل و هو ينظر إليّ، و كان يفزع جداً عندما يرى حشرات في المنزل.


جاءت والدتنا إلينا و سألتنا و هي مبتسمة و في قمة السرور لأنّها وجدت مكاناً آمناً لنا جميعاً: "كيف إذا، هل تحبان منزلكما الجديد؟".


" إنه رائع حقاً!" قلت بحماس.


"فظيع! دعينا نعود إلى منزلنا القديم" قال (راين) بكلام متقطع لأنه كان لا يزال يتعلم الحديث، و هو يقاوم الدموع.


لكن والدتي كانت على علم أننا سنكبر معاً لنحب هذا المكان ، لذلك ربتت على رأس (راين) و ابتسمت.


بعد قليل من الوقت كانت والدتي تنظر لمدى سوء المنزل و كيف أنّه غير صالح للعيش بتاتاً، فكان عليها الخروج و شراء بعض الأدوات لترميمه، لكن قبل ذلك أحضرت حقيبة و أدخلتها المنزل ثم أخرجت منها ضريح والدي و وضعته في منتصف المنزل ثم إبتسمت.


كان السقف عديم الفائدة تمامًا عندما تمطر، و كانت ألواح الأرضية غير مستقرة أيضاً حيث أنها يمكن أن تسمح بسهولة لشخص ما بالسقوط ، و كان الغبار قد كسى جميع أنحاء المنزل، هذه الأشياء كانت ستجعل أي شخص عادي يستسلم و يترك المنزل، لكن والدتي أرادت أن تعطينا فرصة جديدة هنا.


*****


بعدما استغرق الأمر عدّة أسابيع من الإصلاح، قامت والدتي بإنهاء كل شيء، من أعمال الترميم و قد كان ذلك صعباً عليها بما أنّها لا تفقه شيئاً في هذه الأعمال، و قالت أن مقدار الأموال التي أنفقناها في إصلاح المنزل كان كبيراً جداً، لذلك يجب علينا الاستثمار في ما تبقى من مدخراتها.


في أحد الأيام ذهبنا إلى الحقول و قالت إنه يتعين علينا زراعة الطعام الذي نتناوله لإستثمار أموالنا، لقد كنا متحمسين جدًا لهذا الأمر و بالنظر إلى الوراء ، أيقنت الآن أننا لم نكن نعرف ماذا يتوجب علينا فعله .


قامت والدتي بصنع الصفوف بعدما إنتهت من حرث الحقل، و ساعدناها على زرع البذور فيها، كان ذلك ممتعاً بالنسبة لنا و بدى و كأننا كنا نفعل ذلك بشكل صحيح، لكن خلال الأسبوعين التاليين ذبلت كل النباتات .


كانت والدتي في حيرة من أمرها في البداية ، و لكن بعد ذلك بدأت بالدراسة و إستفادت من خبرتها في علم النبات، لقد ارتأت أنها لن تضطر فقط إلى سقي المحاصيل ، لكن ستظطر أيضاً إلى إعطائها مخصبًا، و لكن نظرًا لأننا سننفق أموالًا كثيرة على الأسمدة أكثر مما كنا سنوفره من خلال زراعة محاصيلنا في المقام الأول ، قررت استخدام الأوراق في الغابة لصنع الأسمدة.


لكنها ظنّت أن الجيران سوف يتهمونها بالسرقة، لذلك قبل أن تذهب إلى الغابة صرخت للمزارعين الذين كانوا في حقولهم: "عفواً! و لكن هل يمكنني استخدام الأوراق الساقطة من الغابة ؟!"


ظنوا أنها كانت مجنونة من سؤالها و لكن لم تكن غلطتها أنّها لم تعش في الريف من قبل، "لماذا تسألين، بالطبع لن يقاضيك أحد:" أجاب واحد منهم ممازحاً.


سوف أعترف ، كانت والدتي غريبة بعض الشيء.


*****


ظللنا نحاول زراعة طعامنا كما قال الكتاب التي إقتنته والدتي ، و مع ذلك ظلّت المحاصيل تذبل كل مرة، حتى قررت إستشارة أحدٍ ما خبير في هكذا أمور.


و في أحد الأيام ، جاءت سيارة غريبة أمام منزلنا، و نزل منها شيخٌ عجوز قبيح الوجه و المظهر و قال لنا بلغة عنيفة : "عذراً ، و لكن هل السيدة (جاسمين) هنا؟"


في ذلك الوقت ، لم أكن أنا و (راين) معتادين على أشخاص آخرين بخلاف والدتي ، فهربنا إلى داخل المنزل لأننا كنا خائفين و بدأنت نختلس النّظر .


نهضت والدتي التي كانت جالسةً عند المطبخ و خرجت للتحدث معه، "مرحباً ، يجب أن تكون الرجل المزارع الذي أخبرني عنه الجميع، لقد انتقلنا منذ أشهر ، لقد اعتدنا أن نعيش في المدينة لذلك كان من الغريب بعض الشيء بالنسبة لنا أن نكون محاطًين بالكثير من المساحات الخضراء "، قالت والدتي محاولةً بدأ محادثة لكن ملامحه العنيفة لم تتغيّر.


التفتت إلى الحقل ثم تابعت و هي مبتسمة: "لكنني أعتقد أن كل هذه الطبيعة جيدة لنا".


سخر و قال: "حسناً الطبيعة قتلت محاصيلك ، فكيف تشعرين حيال ذلك؟".


بصق على الأرض ثم تابع :"و توقفي عن الابتسام مثل هذه الابتسامة ، فإنه يجعلك تبدين و كأنك خادعة ملعونة، سأعود في الغد لإعطائك التعليمات".


ثم عاد إلى سيارته و انطلق ، تاركاً أمي تقاوم الدموع مما قاله عنها، و قد كان هذا مؤلماً جداً بالنسبة إليها، لكنها حاولت عدم البكاء و البقاء قوية من أجلنا.


بعد ذلك واصل المجيء لمشاهدة محاصيلنا و كيفية عمل والدتي، في بعض الأحيان كان ينتقدها على طريقة عملها البطيئة و في أحيانٍ أخرى بعد أن أن تنتهي من زرع الصفوف ، كان يخبرها بأنهم متباعدون جداً و أن عليها البدء من جديد.


كانت تعمل والدتي ساعات لا تحصى بينما كان يكنفي بالمشاهد فقط، و بسبب هذا لم أكن أنا و (راين) نتحمله لفترات طويلة ، و لكن بدلاً من النظر إليه يقسو على والدتي طوال الوقت قمنا بإستكشاف قدراتنا و قد تعلمنا أخيراً كيف نتحول إلى ذئاب بالطريقة الصحيحة، لذلك كنا نقوم باستكشتف الغابة القريبة منا التي لا نهاية لها إلى حد ما معاً، و كانت تلك طريقة ممتعة لتمضية الوقت.


أخبرها الرجل العجوز في نهاية اليوم أن تزرع عشر محاصيل لكل ثلاثة صفوف ، لنها عارضته قائلةً :"لماذا؟ هذا كثير جداً، و لا يبدو أننا سنأكل كل هذا تقريبًا خلال فصل الشتاء القادم".


لكنه صمت فقط و إكتفى بالرحيل تاركاً والدتي تكرر العمل مرة ثانية.


*****


عندما اتبعت والدتي أخيرًا جميع تعليماته ، خلال الأسابيع الصيفية التالية و التي كانت شاقة جداً بالنسبة لها، أتت ثمار جهودها و أصبح لدينا الكثير من الخضروات لتناولها.


أخيرا كان لدينا الكثير من محصول البطاطا و البصل، حتى أن بعض الجيران طلبوا تبادل المحاصيل معنا ببعض المحاصيل الأخرى و أحياناً بعض مستلزماتهم القديمة التي لم نكن نمتلكها.


حصلنا على ثلاجة كبيرة و ملأناها بالسبانخ الضخمة، و الفجل و الجزر الضخم التي حصلنا عليها من المزارعين الآخرين، لكنني أعتقد أن الجزء الأكثر إثارة للدهشة هو أن محاصيلنا لم تأكلها حيوانات الغابة على عكس بعض المزارعين الآخرين، لقد كان ذلك مفاجئًا على الأقل لأي مزارع آخر غيرنا، ترى لأننا ربما كنا ذئاباً و أطفالًا في ذلك الوقت ،و كنا نركض كثيراً في تلك الحقول لذلك كانت الحيوانات تخاف الإقتراب من منطقتنا.


و لكن يمكننا أن نقول أن والدتنا كانت بحاجة إلى مساعدتنا أيضًا لذلك أردت تقديم يد العون لها، في البرية تميل الحيوانات الأكثر خطورة إلى تحديد أراضيها بحيث لا تقترب أي حيوانات أصغر منها خوفًا من التعرض للأكل.


لذلك نعم ، أعرف أن هذا يبدو مقززاً و لكنني تحولت لذئب و تبولت في جميع أنحاء المحاصيل ، قد يبدو الأمر فظيعًا و لكنني أردت المساعدة و صدقوني لقد ساعدنا الأمر كثيراً.


بما أننا كنا نعيش بالقرب من الجبل فقد أصبح الجو باردًا جدًا عندما حلّ الشتاء، كانت هذه هي المرة الأولى على الإطلاق التي أكون فيها أنا و (راين) و والدتي معاً و نرى الثلج يتساقط .


أيقظتنا والدتي في تلك الأمسية التي تساقط فيها و لقد كنا متحمسين جداً لدرجة أننا لم ننتظر مجيء الصباح للعب معاً، لذلك خرجنا في ملابس نومنا و لعبنا في الثلج معاً، و ركضنا في الغابة و أعلى التل.


الثلج لم يبدو أنه يبطئني عندما كنت أركض، و لا حتى يؤذي قدماي، الشيء الوحيد الذي تردد في رؤوسنا جميعا هو أن هذه اللحظاتالتي قضيناها معاً ممتعة جداً.


و لكنها لم تدم بعد ذلك عندما حدث شيء فظيع للغاية، بدأنا نركض بجانب النهر و كانت واد تي قد حذرتنا من الذهاب إليه لذلك كناّ حذرين من الاقتراب منه أكثر، نظرت إلى (راين) و بدى أنه توقف للنظر إلى شيء بمحاذاة النهر ، لم أفكر كثيرًا في تحذيره بالبداية أو إحضاره و جعله يبقى بقربي، و لكنني أخطأت عندما لم أجعله يبقى معي لأنني كنت مهملة.


كان يحاول أن يصطاد فراشة تطير حوله ، و كان سينجح في إمساكها، و لكن بسبب الحذاء الذي كان يرتديه ، تعثر و سقط في الماء البارد أو بالأصح المتجمد، لم يكن يستطع السباحة بالطبع فقد كان صغيراً للغاية، فبدأ النهر بأخذه في تياره السريع.


صرخت لوالدتي لتقديم المساعدة ، لكنني علمت أنها لن تقدم في الوقت المناسب ، لذلك اضطررت للتحول إلى ذئب و إحضاره، ركضت بمحاذاة النهر لأصل إليه و بدأت أصرخ عليه و أخبره أن يتماسك حتى أتمكن من الدخول و إنقاذه بنفسي، رأيت جذع شجرة كان قد سقط في النهر و أخبرته أن يحاول التمسك به، وصلت إليه و قفزت في الماء البارد و أمسكته بأنيابي من ملابسه و حاولت جرّه بسرعة إلى الضّفة، لكن التيار كان قوياً.


عندما قمت بإخراجه كان جسده باردًا جدًا و كنت متعبةً من تحولي، و عندما وصلت والدتي أخيرًا كانت خائفة من أن يحدث له شيء أو الأسوء أن يموت، التقطته بين ذراعيها و بدأت تردد اسمه ليستيقظ و هي تبكي: "(راين)! (راين) ! استيقظ من فضلك!"


حتى فتح عينيه بصعوبة و بدأ بقول أشياء غريبة لم أفهمها و كان يتحدث بصعوبة، "أمي ، خمني ما رأيته لقد كنت في مرج ممتلئ بأزهار دوار الشمس، و رأيت ذلك الشاب الغريب لقد بدى مألوفاً و كأنني رأيته من قبل، كان يشبه ذاك الشاب بالصورة في ضريحك الذي تنظرين إليه كثيراً، كان يحاول إمساء معصمي و أخذي إلى مكان ما حتى سمعت صوتك ينادي ثم إستيقطت، أنا سعيد لأنني لم أذهب معه... ".


قال ليغمض عينه و ينام، و لتسقطت دمعة والدتي على كتفه، علمت والدتي أنه كان سيلاقي حتفه و أنه كان يرى والدنا، لكنها كانت تبكي بدون توقف حتى سألتها: "أمي ، لماذا تبكين، إنّه بخير الآن ما الذي يحدث؟"


هزّت رأسها ببطئ ثم قالت: " لا شيء، أنا فقط سعيدة لأنه بخير".


قالت لنا والدتنا في وقت لاحق أنها لم تكن خائفة على الإطلاق في حياتها مثلما خافت في تلك اللحظة.


*****


الفصل الرابع:



بعد تلك الحادثة، استمرت حياتنا كالعادة و لا جديد يذكر فيها حتى مرّ أول عام لنا في ذلك المنزل، بلغت الخامسة من عمري بينما (راين) بلغ الرابعة.


لا جديد يقال كما ذكرت، لكن (راين) تغيّر إلى شخص مختلف تماما، و أصبحت تصرفاته غريبة عن المعتاد مثل أن يمضي وقتاً طويلاً ينظر أمام ضريح والدنا رغم أننا لم نلتقه من قبل و لم تتسنَ لنا الفرصة للحزن على فراقه، بالنسبة لي ، كنت أرغب في التغيير أيضاً لكنني لم أعلم كيف.


في أحد الأيام ، زارت والدتي بعض الجيران و كانت تتحدث إلى هاتين السيداتين الهرمتين اللتين كانتا لديهما الكثير من الأحفاد في عمري و الذين كانوا يركضون في كل مكان هناك، و استمروا في الحديث عن ذلك الشيء الذي يدعى مرحلة الدخول إلى المدرسة.


و عندما سألت والدتي عن هذا الأمر بسبب أنّه أثار فضولي، كل ما فعلته كان الضحك و القول: "أنت مميزة و مختلفة (يوكينا)، بالإضافة إلى أنك صغيرة للغاية كي تذهبي إلى هناك ".


لكنني عبست حينها و إنزعجت مما قالته، لذلك أحسّت والدتي ببعض القلق حول مشاعري، و ما أعنيه بذلك هو أن والدتي لم تكن تريد مني الذهاب إلى الرعاية النهارية - أو كما تسمى بالروضة- خوفًا من أن أصبح شديدة الإهمال و أن أتحول إلى ذئب على حين غفلة.


لذلك أصررت على جعلها توافق، و اشتكيت و أشتكيت حتى كنت متأكدة من أن الطريقة الوحيدة لإقناعها ، كانت أن تأخذ الأمور بيدي أي تثق بي، و تترك كل شيء عليّ بلا قلق، لأنه سيأتي وقت لن تكون بجانبي و سيتوجب علي فيه حماية نفسي بمفردي.


فانتظرت فرصة لجعلها تأتمنني على قدراتي، لذلك إنتظرتها حتى زارت بعض الجيران مجدداً و أصبحت جالسة على الشرفة و تتحدث معهم و كنت جالسةً معهم حينها، انتظرت حتى يغفلوا عنيّ و قفزت من الشرفة ، ثم تحولت إلى ذئب بسرعة و كنت لازلت مرتدية ملابسي حتى أنهم لم يكونوا يعلمون أنني كنت ذلك الذئب.


صاح احداهن بفزع: "يا إلهي، هل هذا ذئب حقيقي !".


أجابها زوجها قائلاً: "بالطبع لا ، الذئاب شبه منقرضة و لن تدخل هذه القرية بسهولة دون أن يلاحظها باقي المزراعون، لابد من أنه مجرد نوع آخر ترعرع في الغابة و حدث أنه ضلّ طريقه".


ثم إلتفت إلى والدتي التي بدى عليها الفزع و قال و هو واثق من نفسه: "أليس هذا صحيحًا يا (جاسمين) ؟".


لقد شعرت والدتي في لحظتها بالصدمة لدرجة أنها ظنت أنني كدت أقوم بكشف هذه الحيلة ، لكنها استعادت ذهنها و أجابت :"نعم ، إنه مجرد كلب ضال".


ابتسم الرجل ، ثم نظرت زوجته عن كثب و قال: " إنه يرتدي نفس ملابس (يوكينا) الصغيرة، كم هذا لطيف!".


بالطبع كانت عجوزاً خرفة لذلك لم تكشف خدعتي، بينما كانت والدتي تمتم :"يا إلهي (يوكينا)، كم أنت عنيدة و متهورة".


بعد ذلك كنت متأكدًا من أنها رأت أنني قادرة على السيطرة على قدراتي، لذلك وافقت بعد إلحاح كبير على إرتيادي أقرب مدرسة من هنا بشرط أن أتعلم كيف أضبط نفسي، رغم أنّ هذا سبب بعض الصعوبات لوالدتي حتى تحضّر ملف طلب تسجيلي لأننا بالطبع لا نملك شهادة ميلاد، إلاّ أنها تمكنت من تجاوز هذه المحنة كما تفعل دائماً.


*****


بعد وقت قصير كان يجب علي الذهاب إلى المدرسة، رغم أنني كنت مغمورة بالفرح إلاّ أنني كنت متوترة للغاية و أنا متأكد من أن والدتي كانت كذلك أيضا، لكن في اليوم التالي اضطررت للذهاب.


أخبرتني والدتي بعدما جهّزتني للذهاب إلى أول يوم لي في الروضة و هي مبتسمة:" حظاً سعيداً عزيزتي".


رغم عبارتها التي كان عليها أن تحفزني، إلاّ أنها لاحظت أنني مازلت خائفة فهذه طبيعة الأم، لذلك أخرتني بجملة سحرية أرددها لكي لا أتحول إلى ذئبة، فأخبرتني أن أحفظ العبارة التالية :" سوف أكون طفلة طبيعية طوال الطريق إلى المنزل."


حاولت أن أقولها بالشكل الصحيح لكنني أخطأت في حفظها بالكثير من المرّات و تلعثمت في كلامي قائلة :"سوف أكون.... طوال الطريق... منزل.... طفلة....".


لذلك ضحكنا معاً عند نهاية حديثنا و أدركت حينها أن الخوف زال و أنّ كل شيء سيكون على ما يرام، فابتسمت و أمسكت يد والدتي و بدأت أجرها للخروج.


ظللت أقول سحر الحظ السعيد كما سميته حتى وصلنا إلى حفل الدخول، كان هناك الكثير من الأباء مع أبنائهم الذين كانوا في نفس عمري، لم أكن محاطة بهذا العدد الكبير من الناس في حياتي، لكن ذلك الشعور الخجول تجاوزني تقريباً في اليوم الثالث لي.


حاولت تعلم التواصل مع الأولاد الآخرين و التعود على ذلك، لذلك ذات مرة ركضت إلى محطة الباص المدرسي بمفردي دون قلق، عندما كان شخص على متن الحافلة يبحث عن مكان قلت له بحماس: "مهلاً اجلس معي أرجوك!"


بالطبع إستغرب مني و كان خائفاً قليلاً لكنه جلس في الأخير عندما ابتسمت له و قلت :"تعال لا تخف".


في الدرس عندما كان يسأل المعلم عن الإجابة لهذا السؤال كنت أول من يصرخ بـ: "أنا! أنا! اخترني!".


و لقد كنت رائعة في ماراثون السباق المدرسي خصوصاً عندما ركضت أسرع بكثير من الأولاد الآخرين، أسرع جداً.


و كانت بداية سنتي الدراسية رائعة و لكنني كنت لا أزال (يوكينا) المستذئبة بعد كل شيء.


فأتذكر ذات مرة في الفسحة، أن معظم الفتيات كنّ يحضرن معهن إكسسواراتهن أو دماهن المفضلة ، و لكنني أحضرت بدل ذلك عظامًا، و أوراقً أشجار، و عناكب كنت قد جمعتها من فنائنا الخلفي في صندوق صغير، و أنا لا أعتقد أن الفتيات شعرن بالإرتياح بعد رؤية ذاك فركضن خوفاً مني، لنقلن أنني لم أعش في بيئة مناسبة جداً لأصبح فتاةً بالشكل الصحيح.


لذلك كنت أنني لا أتصرف كالفتيات على الإطلاق و لو حتى قليلاً، لذلك فتحت هذا الموضوع عندما كنت بمفردي مع والدتي.


"لقد هربن جميعًا عندما أخرجت لهم صندوقي الخاص ، حتى الأولاد هربوا أيضاً!"، إشتكيت لها.


ضحكت والدتي من قصتي لكنني رددت بغضب: "هذا ليس مضحكاً على الإطلاق! أنا جادة، لن يتم قبولي هكذا إذا لم أبدأ في التصرف كفتاة".


لكنها كتمت ضحكها حتى إنفجرت بعدها و قلت :"مهلا! هذه ليست مسألة تدعي للضحك! هذه أزمة".


و من ثم توقفت عن الضحك ثم ابتسمت و قالت: " لقد خطرت لي فكرة، أنت بحاجة أولاً إلى شيء ترغب سيدة في ارتدائه، أتردين ذلك؟ ".


أجبت بكل حماس: "نعم أنا أريد ذلك! ".


في تلك الليلة ، حاكت لي والدتي فستانًا أبيض جميلاً و مزخرفاً بزخاريف سوداء تعطي مزيجاً رائعاً و مناسباً، و كنت متحمسة للغاية لدرجة أنني شاهدتها و هي تصنعه كله طوال الليل، حتى أتمكن من تجربته.


في اليوم التالي ، أثنى كل واحد من أصدقائي على ثوبي الجديد رغم أنني ظننت أنّ الانخلاط بينهن سيكون صعبًا و ليس بهذه السهولة، و رغم أنني ظننت نفسي غريبة لكنني كنت أحاول أن أكون أكثر جرأة حتى لو قتلني الأمر في النهاية.


*****



الفصل الخامس:


كنّا أنا و (راين) نستمر في التطور ببطء، لكن (راين) كان يواجه بعض المشاكل لأنه كان متوتراً حول طبيعته المختلفة عن أقرانه، لذلك كانت والدتي فضولية حول كيف تصبح الذئاب بالغة ، و بدأت في إجراء دراسات برية لمساعدة (راين) ، و من حسن حطها أنها وجدت عملاً مناسباً في حديقة حيوانات تحتوي على ذئب، لتغطي تكاليف معيشتنا التي كانت تتوقف على إستبدال المحاصيل بأشياء مادية من أهل القرية، و تقوم بدراساتها عن قرب في نفس الوقت.


بدأ (راين) يذهب مع والدتي إلى العمل و يبقى معها هناك ينظر فقط إلى قفص الذئب لساعات بينما كنت منشغلة بالمدرسة و كيف أحسن سلوكاتي مع المجتمع، بينما كان هذا من أكبر أخطائي التي إقترفتها، فبدل أن أساند أخي الصغير خلال فترة خوفه من حقيقته كنت أحاول كسب رضا أناس لا أعرف شيئاً عنهم، و هذا لأن البرية قد فتنت به، و قد كنا أغبياء لأننا لم نوليّ اهتمامًا بهذا في الواقع و ام نحاول حلّ هذه المشكلة، بسبب أنّه سيؤثر على المسار الذي سيسلكه في مستقبله لاحقاً.


إستمر هذا الوضع لعام، بعدها إقترب وقت (راين) للذهاب إلى المدرسة أيضاً، كنت متحمسة لذهابنا معاً للدراسة، قمت بتمشيته إلى محطة الباص، و كان خائفاً مثلي لذلم علمته كيف يقول سحر الحظ.


أمسكت كتفيه و نظرت إليه و قلت: " كرر معي، سأكون طفلاً طبيعياً طول الطريق إلى المنزل ".


لم يكررها لذلك قلت: "هيا كررها، هل تستمع ؟".


لم يبدي لي أي اهتمام لكنه بدل ذلك بدأ يمشي باتجاه الطريق المؤدي إلى الغابة التي اعتدنا اللعب فيها معاً، لكنني سحبته إلى الوراء متسائلة لماذا فعل هذا.


عندما وصلنا إلى هناك كنت في الصف الثاني بينما كان لا يزال في الصف الأول، للأسف لا أعتقد أن (راين) كانت يحب المدرسة بقدري، لقد تعرض للتخويف كثيراً لأنه كان ضعيفًا و التنمر حول كونه بلا أب مما زاد كرهه لها.


بالطبع حاولت حمايته بصفتي أخته الكبيرة ، لكنني لم أحاول أن أسأله حول حقيقة أحاسيسه أو كيف يشعر حول كونه مستذئباً.


*****


مرّت الأيام و السنوات بسرعة خيالية، و كننا نتطور يوماً بعد يوم بصفتنا بشراً و مستذئبين في نفس الوقت، و بدأت بعدم القلق على (راين) عندما أصبح في الصف الرابع حيث تخطى مسألة التنمر تمامًا و أصبح لا يبدي إهتماماً لأيّ شيء حوله، و لكنني الآن نادمة لأنني لم أسأله عن مشاعره و و لأنني لم أحاول حتى مساعدته ليس حول مسألة التنمر فقط بل حول مسألة طبيعته المختلفك أيضاً.


أتسأل مالذي كان سيحدث لو إهتممت بأخي الصغير أكثر فقط، ربما كان سيتغير ما حصل حينها، لاحظت أن شيئا فيه قد كان غريباً حينها، لكنني كنت مشغولة بالكثير من الأشياء و خصوصاً حول تطوير شخصيتي كفتاة بشرية في المجتمع و نسيان أنّي مستذئبة كلياً أو التظاهر بذلك.


*****


عندما كنت في منتصف الصف الخامس، انتقل إلى مدرستنا طالب جديد، و قد انتقل بالتحديد إلى صفي، كان اسمه (جين هوشيدا) و كان من أمريكيا في الأصل، لكنه كان يعيش مع والدته و زوجها في آسيا حسبما سمعت.


و لأنه كان أجنبيًا ، كان الجميع متحمسًا للغاية للتحدث معه، و كنت كذلك أيضاً بعض الشيء.


في اليوم الذي وصل فيه و دخل الصف نظر الجميع إليه عندما جلس في مقعده حتى طلب منهم المعلم الإنتباه، كان يبدو حزيناً و غاضباً في نفس الوقت عندما نظرت إليه، و عند نهاية الحصة إجتمع الجميع حوله و بدؤوا في سؤاله حول حياته في آسيا و لماذا عاد إلى أمريكا، لكنه كان يتجنبهم و يخبرهم أن يتركوه و شأنه.


لكن أثناء خروجه الصف، سار في إتجاهي بينما كنت جالسة و بدى على ملامحه الغموض، ثم إستدار إلي و توجه نحوي و بدأ يتمعن فيّ، ثم سألني " أنت، ما إسمك؟".


"(يوكينا) ، لماذا أهناك خطب ما؟ " أجبت بإستغراب.


لكنه بدأ يقترب مني و يشتم رائحتي بطريقة غريبة ثم قال: "هل لديك كلب أو جرو ما؟"


"لا ، و ما علاقة هذا السؤال الغريب بي؟ " قلت.


أجاب على الفور: "لأنك لدية رائحة غريبة تشبه رائحة الكلاب، و ملابسك فيها بعض بقايا الفرو، كما لو كنتي-"


نهضت من مكاني قبل أن يكمل عبارته و قلت بذعر: "أعذرني، أنا فقط بحاجة للذهاب ... إلى الحمام! ".


خرجت من الصف ناكسةً رأسي بسرعة، كنت أمشي إلى الحمام بكل إحباط، عندما وصلت إليه فتحت الحنفية و غسلت وجهي ثم بدأت بالنظر إلى نفسي في المرآة، كنت أعرف لماذا سألني عن هذا ، كان ذلك لأنني كنت نصف ذئب و لم أتمكن من التخلص من رائحة الذئاب الطبيعية.


بدأت أقول في نفسي بكل ألم :"كنت أعرف أن هذا سيحصل في مرحلة ما... و لكن... لكن هذا ليس عادلاً! ".


لأنني عهدا نفسي مرة أن لا أحول مجدداً و لمدة عامين كنت لم أتحول أبدًا إلى ذئب، حتى نسيت أنني كنت ذئباً أيضاً ، لكن تلك الرائحة كانت بمثابة تذكير قاتم كان يلاحقني طوال الوقت ليذكرنني بحقيقتي، أنني مسخ مخيف، إنها كاللعنة لا تزول حتى تموت و ترحل معك حتى تتعفن في قبرك، أو مثل السرطان المزمن الذي يأكل كل خلية من جسمك بينما أنت تتألم و تتألم و لا تستطيع فعل شيء لإيقافه.


بعد مدة عدت إلى الفصل دون أن أنبس ببنت شفة و قد عكّر العبوس ملامحي، و جلست بعيدًا عن (جين) أيضًا.


عندما دق جرس الإستراحة خرجت بسرعة و ذهبت إلى طاولة منفردة في الكافتيريا بعيداً عن باقي الطلاب، لكنه تبعني و بقيّ يزعجني حتى يسألني شيئا، لكنني تجاهلته و ذهبت إلى الحمام لكي أتجنبه.


في نهاية الدوام كنت في مهمة تنظيف للصف لذلك حاول أن يسألني مرة أخرى بينما كنت أكنس، لكنني حاولت أتجنب أي تواصل معه، لذلك هربت منه عن طريق الركض نزولاً على الدرج متجهةً نحو الباحة الخلفية حيث لا أحد هناك ، و بهذه النقطة شعرت بالضيق الشديد و كنت أحاول كبح نفسي حتى لا أتحول.


بقيت أردد سحر الحظ: "سأكون فتاة صغيرة على طول الطريق إلى المنزل".


لكنه تبعني و نادى عليّ: "مهلاً (يوكينا) ،انتظري!".


ظللت أحاول الركض و الابتعاد عنه و كنت أشعر بالضيق أكثر ، فكررت سحر الحظ مراراً و تكراراً، السعيد، و لكنه حاصرني في الزاوية و قال: "(يوكينا) فقط اسمحي لي أن أسألك شيئاً واحداً فقط!".


لقد دفعته بعيداً و صرخت: "ابتعد عني!".


ابتعدت عنه و لكنه أمسك معصمي و قال: "(يوكينا) ،ما خطبك، هيا أخبريني! ".


لم أستطع الابتعاد منه أكثر من ذلك و لم أستطع التحمل أكثر، لذلك فقدت صوابي للحظة و تحولت يداي بدون علمي بينما لا أعلم إذا لاحظها (جين) ، و بضربة سريعة واحدة من يدي التي التي خرجت منها مخالبي، خدشت أذنه اليسرى محدثةً جرحاً عميقاً، و رأيت الدم يبدأ بالسيلان منها.


أفلت معصمي فتراجعت مذعورة للخلف، و وضع يده بأذنه ثم نظر إليها و رآها ممتلأةً بالدم، بعدها فقد توازنه للحظات ثم أغميّ عليه بينما تسمرت خائفةً في مكاني.


*****


لقد نقلت بعدها مباشرة إلى مكتب الناظر ليتم إستجوابي لكنني لم أكن أعرف ما أقوله ، و كنت قلقًة جدًا من أن (جين) سيخبرهم بكل شيء رآه، حول كيف تحولت قبضتي إلى مخالب، و ليس ذلك فحسب ، سيخبرهم أنني فعلت ذلك من أجل مهاجمته أو التعدي علبه، لذلك قررت ألا أقول كلمة حتى جاءت تأتي والدتي التي اتصل بها الناظر من قبل إلى المدرسة و هي مذعورة .


كانت والدتي في العمل مع (راين) الذي أصبح لا يحب الحضور إلى المدرسة و بدل ذلك كان يمضي وقته مع والدتي خلال عملها فقط من أجل مشاهدة الذئب المحبوس، و عندما تلقت إتصالا من المدرسة عني، و عندما حدثتها عمّا حصل، انتابها الخوف جاءت بسيارة العمل إلى المدرسة على الفور، و بعدها بلحظات دخلت والدة (جين) و هي مصدومة مما حدث لولدها و بقيت ترمقني بنظرات حقد و احتقار.


عندما وصل مدير مدرستنا، أوضح الموقف لوالدتي و والدة (جين) قائلة :"يبدو أن (يوكينا) قد أخطأت و أضّرت (جين) بعض الشيء، و لكن المهم أنّ الجميع بخـ- "


لكن والدة (جين) تخترق الحوار: "لكن! لكن ماذا! لقد كادت هذه الفتاة الهمجية أن تقطع أذن ابني العزيز كما لو كانت مجرد لعبة!".


"نعم لكنها كانت مجرد نوبة غضب مفاجئة" ، كانت والدتي تلجأ إلى التبرير لها هذه المرة.


"نحن آسفون، هيا اعتذري (يوكينا) " ،قالت والدتي لكنني بقيت مطأطأة الرأس فقط و لم أنطق بحرف.


لكنها هذه المرة كانت تتحدث معي و تقول :"إنظري إليّ (يوكينا) ،هيا اعتذري".



لكنني صمتّ فقط، لقد شعرت بالخجل الشديد في ذلك اليوم ، لكن من خلال الدموع ، نظرت لأعلى و قلت لنفسي أن أكون أشجع مما بدوت عليه للحظة واحدة فقط، و ضغطت على نفسي و قلت: "أنا... آسفة".


لكن والدة (جين) لم تستطع أن تبقي فمها مغلقًا و حسب و تقبل اعتذازي، فبدأت في الثرثرة: "فقط تقول آسفة و ينتهي كب شيء! لن أقبل بهذا، ماذا لو جعلت ابني أصم"


و قاطع (جين) الحديث قائلاً بصوت خافت:ج "لا، لم يكن خطأها أمي ، لقد كان ذئبًا ... "


صمت الجميع و التفت إليه بسبب قوله المجنون لكنه أكمل رغم ذلك : " لقد لاحظت ذئبًا لوهلة عندما أصبت بالدوار إثر الضربة على أذني، و رأيت (يوكينا) تتراجع للخلف و هي مذعورة و تنطر إلى شيء ما، و بمجرد أن بدأت أذني بالنزيف أغمى علي، هكذا عرفت أنه لم يكن خطأ (يوكينا) من البداية ، و لكنها كانت خائفة من التكلم حول الذئب لكي لا تعتقدوا أنها مجنونة".


عمّ الصمت بعدها و من ثم خرجت بسرعة بعدما أنهى حديثه، و نادتني والدتي لكنني تجاهلتها، و أكملت والدة (جين) ثرثرتها حولي.


في الدرج، عندما جلست و بدأت بالبكاء ناداني (جين) من خلفي و قال: " (يوكينا)، أأنت على ما يرام؟ "


تظاهرت أنني لم أسمعه، لكنه أضاف: "أنا أصدقك (يوكينا)، أنت أعرف أنه لا علاقة لك بالأمر، و دعك من كلام والدتي إنها فقط مهوسة بحفظي بخير".


ثم إقترب مني و وضعك راحة يده على كتفي و قال: "(يوكينا)... ".


أبعدت يده عني و صرخت عليه :"فقط دعني و شأني! أنت فقط لا تفهم."


ثم رحلت من هناك و ركبت في سيارة والدتي، غارقة في أحزان و هموم حقيقتي البشعة، و كيف أن هذه الحقيقة المرة ستلاحقني مدى الحياة، و لن تتوقف حتى تسلب كل شيء مني.


*****


في ساحة انتظار السيارات بالمدرسة ، بينما كنت داخل السيارة ك رأيت والدتي تعتذر لوالدة (جين) للمرة الأخيرة، و تركتها تذهب بعدما رمقتها بنظرات إشمئزاز، و أنا فقط أنظر من بعيد إليها تهان بسبب إهمالي.


عندما عادت والدتي للسيارة لتوصلني إلى المنزل نظرت إلي بغضب و كانت الدموع تنزل من عيني لأنني لم أستطع كبحها في تلك اللحظة ، لكن قبل ذلك قلت :"أمي ...".


نظرت إلي بشفقة و قالت: "نعم يا (يوكينا) ".


"لم تنجح التعويذة ... سحر الحظ الجيد لم ينجح!"، بعد أن قلت هذا وضعت رأسي على حضنها و أجهشت بالبكاء


*****


الفصل السادس:



بعد ذلك اليوم ، توقفت عن الذهاب إلى المدرسة لفترة حتى أنسى ما حصل، لم أكن مثل (راين) أحاول القيام بأشياء أخرى تجعلني أنسى ما يحدث من حولي، و لكن بدلاً من ذلك كنت قد أستلقي في السرير لساعات و أبقى أتأمل هناك كما لو كنت في نوع من حالة الاكتئاب.


لكن شخص آخر غير (راين) و والدتي اهتموا بي عندما كنت هكذا، نعم (جين) قد فعل، لقد كان يحضر لي طعام الإفطار و بعض الواجبات المدرسية إلى المنزل و يضعها عند باب المنزل سراً عندما كنت أحاول أن أبقى منعزلة، لكنني كنت أعلم أنّه هو الفاعل.


علمت والدتي بذلك أيضاً لكنها تظاهرت بالجهل، و لم تمانع على ذلك بل كانت سعيدة أنني وجدت أخيراً شخصاً يهتم بأمري حتى لو لم تتسنى لنا الفرصة للتعرف بالشكل الصحيح، لربما كانت حالتنا لتكون أفضل مما كانت عليها.


و لكن على الرغم من أنني أكلت ذلك الطعام و أديت تلك الواجبات المنزلية ، مازلت لم أخرج من دائرة عزلتي، أو بالأصح لم أرجع إلى المدرسة لمدة أكثر.


(راين) من ناحية أخرى كان مستغربا من طبيعته أو منطقة عمل والدتي في تلك المرحلة، عندما أدرك أنه هناك يوجد ذئب هناك على قيد الحياة ، كان متحمسًا جدًا و سأل والدته عما إذا ما كان بإمكانه الذهاب و اللقاء به، و قد وافقت على ذلك.


كان سعيدًا جدًا برؤية ذئب آخر أيضًا ، و لكن عندما وصلوا هو و والدتي يمكننا أن نقول أن الأمور لن تسر بالطريقة التي أرادها بالضبط.


عندما جاء الموظف و أدخلهم إلى منطقة الذئب، طلبت منه والدتي بعض الخصوصية لتقوم بتدوين بعض الملاحظات، لكنها كانت تنوي التحدث مع الذئب حول (راين) علّها تجد بعض الإجابات حول تساؤلاتها، ففي الأخير لقد علمت أن المستذئبين حقيقيون، لذلك ربما تستطيع الحيوانات التكلم أو التخاطر بين البشر.


"عذرا يا أيها ذئب، لكن هل يمكنني أن أسألك شيئًا؟" همست والدتي إلى الذئب.


"هذا الصبي هو في الواقع ذئب أو نصف ذئب بصيغة أصح ، لذلك هل يمكنك أن تخبرني كيف أصبحت بالغًا؟"، قالت و بقيت تحدق فيه و لكن لا إجابة أو ردة فعل.


"من فضلك لا تخجل" أضافت.


و لكن يزال لا يبدي أي ردة فعل، ثم قالت له قبل أن ترحل:" أرجوك أنا بحاجة ماسة إليك".


لكنه لم يبدي لها هماً و ابتعد عنهما فقط، و عندما جاء وقت جولتها السياحية في العمل ، سألت والدتي أحد المستشارين من أين جاء الذئب و أجابها: "أوه إنه من أمريكا على ما أعتقد، نعم إنه أمريكي".


"إذاً ليست يابانية؟"، قالت والدتي.


"لا ، لقد حصلنا على هذه المعلومات الموثوقك من حديقة حيواناته السابقة التي تربى فيها"، أجابها.


"لذلك فهو ليس ذئبًا بريًا "، قالت بخيبة أمل شديدة.


*****


بعدما إنتهت والدتي من مناوبتها في المساء، أخذت السيارة مع (راين) ليعودا إلى المنزل، و في طريقهما سألها (راين) : "هل كان أبي هكذا دائماً؟".


نظرت إليه بإستغراب و قالت :"ماذا تقصد؟ ".


"الذئب، هل كان والدي كذاك الذئب؟ "، سألها مجدداً .


نظرت إلى المقود ثم أجابته :"لا، لم يكن كذلك، لقد كان مختلفًا و مميزاً ، لماذا تسأل؟".


تنهد و قال: "لأن هذا الذئب بدا لي، لا أعلم كأنه يشعر بالوحدة ".


ثم نظر من النافذة و قال بحزن: " أتمنى لو قابلت أبي أيضاً...".


تنهدت و قالت والدتي بحزن: "و أنا أيضًا".


*****


حاول (جين) ترك بعض الأشياء مجدداً بشكل سريّ أمام المنزل لكن والدتي وصلت إلى المنزل و قبضت عليه هذه المرة، نزلت من السيارة هي و (راين) و ذهبت إلى باب المنزل حيث كان (جين) منتصباً هناك و خائفاً.


دخل (راين) بلا مبالاة و ذهبت والدتي للتحدث معه، قال لها بذعر: " المعذرة و لكن الأمر ليس كما يبدو عليه، كنت فقط - ".


قاطعته والدتي: "أنا أعلم، هيا إلى الداخل لنتحدث الجو بار في الخارج".


فأدخلته إلى منزلنا لتتحدث معه، جلساً في مائدة الطعام و حضّرت لهما بعض الشاي، سألها إن كان لديها مشروب غازي فأحضرت له من الثلاجة قنينة صودا باردة، أفرغت الشاي في كوب صغير ثم جلست إلى المائدة معه و بدآ بتبادل أطراف الحديث.


أخذت رشفة خفيفة من الشاي الساخن و قالت: "إذاً، أنت هو الشخص الذي يستمر في ترك الطعام و الواجبات المنزلية (ليوكينا) عند عتبة المنزل؟".


أومأ رأسه موافقاً و من ثم سألته: "لكن لماذا تفعل كل هذا من أجلها، بالكاد تعرفان بعضكما."


أخذ رشفة من قنينة الصودا التي أعطتها له و قال: "لكي لا أشعر بالضيق، لأنني السبب في أن (يوكينا) لم تعد تذهب إلى المدرسة."


وضعت والدتي كوب الشاي من يديها، ثم ابتسمت و قالت: "يا (جين) ، هل يمكنني أن أسألك شيئًا؟".


" مثل ماذا؟"، قال لها.


"كيف تشعر حيال الذئاب؟"، سألت والدتي.


لا بد أنه كان يعتقد أن هذا كان سؤالًا غريبًا من أن يُطرح، لذلك أجاب بتردد: " أحب هدوءهم على ما أعتقد ...".


"ما رأيك بهم، أتحبهم أم أنك تخاف منهم"، سألت والدتي مرة أخرى.

"حسناً ، أنا أعني أنني لا أحبهم و لكنني لا أكرههم في نفس الوقت"، أجاب على سؤالها الغريب.


ثم ضحكت والدتي بخفة و قالت: "من الجيد أن أعرف ذلك".


*****


عندما رحل (جين) أخبرتني والدتي بما دار بينهما و بكل ما أخبرها به، شعرت بإحساس غريب في داخلي لكنه كان جميلاً في نفس الوقت، لذلك تفتح الأمل بداخلي من جديد و قررت العودة إلى المدرسة غداً.


في اليوم الموالي، كنت أتناول في إفطاري حتى نظرت والدتي من النافذة و هي ترتشف من القهوة الساخنة ثم إبتسمت و قالت: "هيا (يوكينا) أسرعي، هناك أحد في إنتظارك".


تعجبت من خبرها، و عندما ذهبت للخارج وجدت (جين) و قد كان ينتظرني هناك، إستغربت من فعلته و من ثم جاءت والدتي من خلفي و همست في أذني :"حظاً موفقاً، لا تفسدي الأمر".


إحمرت وجنتاي و قلت بتلعثم: "مـ..مـ.. ماذا ! إنه ليس كما يبـ- ".


لكنها دفعتني للأمام و عندما نظرت إليها غمزت لي و أغلقت الباب، بعدها أتى (جين) إلي و فاجأني بقوله :"ما خطب والدتك؟ ".


قفزت للخلف و من ثم قلت بتوتر :"لا.. لا شيء! ".


نظر إلي بملامح مستغربة و بدأت أنظر إليه و أنا متوترة، بلعت ريقي ثم أشار إلى الضمادة الموجودة على أذنه و قال: "هذا يجعلني أبدو ساذجًا ، أليس كذلك؟".


ثم انتزع الضمادة على الفور و قال :"إنها باردة ، أذني، هل تريدين أن تشعري؟".


ثم أمسك بيدي بسرعة و وضعه على أذنه، لم أعلم ماذا أفعل حينها، ثم بعدها سحبها ببطء أمام وجهه لإلقاء نظرة جيدة عليها، بعدها سحبتها بسرعة ، و وضعتها خلفي و قلت بتوتر: "دعنا فقط نذهب إلى المدرسة ، حسناً".


نظر إلي ثم ابتسمت و قال: "نعم هيا ".


و بطريقة غير ارادية شعرت بالارتياح حينها، لذلك ابتسمت و أومأت له بسعادة و بدأنا نتمشى معاً.


*****


و في جهة أخرى، كان (راين) يتصرف بغرابة أكثر فأكثر ، وكانت والدتي قلقة للغاية بشأنه، لأنه توقف عن الذهاب إلى العمل مع والدتي و أصبح يظل وحده في المنزل، و عندما أخبرته والدتب بالرجوع إلى المدرسة، وافق على ذلك و لكنه كذب عليها و أبى الرجوع و بدلاً من ذلك بدأ بالتحول إلى ذئب في معظم الأوقات، و بدأ في الخروج إلى الغابة.


وذات يوم قبضت والدتي عليه بالجرم المشهود عندما عادت مبكراً من العمل و من ثم سألته: "(راين) ، ألا يفترض أن تكون في المدرسة الآن، إلى أين أنت ذاهب؟".


لقد رد عليها قائلا : "سأذهب فقط إلى معلمي ".


إستغربت من قوله و قالت في نفسها :" معلمك؟".


ثم سألته: "و من هو هذا المعلم؟".


بقي (راين) يردد نفس الإجابة: "معلمي، إنه معلمي و هو في انتظاري هناك في الجبل، علي الذهاب"


لم تعلم والدتي بماذا سوف تخبره فقالت له فقط: "حسنًا ، كن جيدًا و أحسن التصرف لكن عليك الرجوع قبل حلول الظلام ".


رد عليها : "حسنا سأفعل".


قالها قبل أن يتحول إلى ذئب و يركض نحو الطريق الذي يؤدي إلى الجبال في الغابة.


في وقت لاحق من ذلك اليوم ، دعت والدتي بعض الجيران لإحتساء الشاي معهاط و بقوا يتبادلون أطراف الحديث مع بعضهم.


قالت والدتي: "حسنًا، (راين) أحبّ التخلى عن ذلك، أقصد المدرسة، أصلح لا يحب الذهاب إليها".


قال رجل عجوز : "لكن ليس هناك أي خطأ في ذلك (جاسمين)، انظري فقط إلى (توماس إديسون) ، لم يكمل دراسته و انظري إلى ما حققه".


ثم ضحكت والدتي قائلة: "(راين) يقول إنه يصعد إلى الجبال لمقابلة شخص ما ، فهل يعرف أي أحد منكم حول هذا الشخص؟".


رد العجوز بإستغراب: "لا ، ليس هناك أي شخص يعيش في تلك الجبال، إنها موطن للحيوانات المفترسة، أعتقد أنه فقط يكذب عليك".


إرتعبت والدتي حينها ثم قالت زوجته: "ما يعنيه هو أننا لا نعرف أي شخص عاش هناك، أقصد لماذا سيعيش أي شخص هناك، أو بالأحرى كيف سيعيش هناك؟"


تنهدت والداي بقلق ثم نظرت إلى الجبل الذي يطل من شرفة المنزل خوفاً على إبنها، و من الواضح أنها فقط كانت تريد معرفة من كان هذا المعلم الذي يتحدث عنه (راين) طوال الوقت.


*****


في نفس اليوم، عندما عاد (راين) إلى المنزل بعد حلول الظلام بدقائق، قالت له والدتي و هي تحضر العشاء : "أهلاً بعودتك (راين) ".


ثم أضافت عندما جلس إلى المائدة :" (راين)، هل بمكنني طلب شيء منك؟ ".


التفت إليها و قال :"و ما هذا الشيء الذي تطلبينه؟ ".


جلست في المائدة و قالت له :"عذراً و لكن، هل يمكنني أن أقابل معلمك؟".


ابتسم في الحال و رد عليها :"حسنًا لا أعلم بالضبط ، إنه ليس مولعًا جدًا بالبشر ، لكنني متأكد من أنه يريد مقابلة والدة تلميذه الوحيد، و لكن أيمكنك تحضير شيء له لأنه مريض جداً و سيفرح بذلك".


إستغربت والدتي قليلاً ، لكنها فرحت لأنه سيتسنى لها معرفة من هذا المعلم فأومأت برأسها كعلامة للرضا.


في اليوم التالي، أخذها (راين) إلى الجبل، إلى تلك الشجرة الضخمة في الغابة لمقابلة ذاك الشخص الذي يدعوه بالمعلم.


وصلاً إلى مكان غريب وسط الغابة، ثم سبقها قليلاً و قال :" انتظري للحظة، سأتحدث معه أولاً".


ذهب (راين) عريش الأشجار الكثيف، ثم عاد بعدها و قال :"إنه موافق على مقابلتك".


عندما دخلت والدتي بين العريش، انصدمت مما رأته عند وصولها، اكتشفت أن معلم (راين) لم يكن بشرياً في الواقع كما كانت تعتقد، بل كان حيواناً برياً و لم يكن ذئباً بالكامل أيضاً، بل كان نوعاً من فصيلة الذئاب يشبه الثعلب أو القيوط نوعاً ما، و كان يرقد على أحد فروع تلك الشجرة الضخمة، فلم تفارق والدتي ملامح الصدمة الكبيرة.


نظر إليها (راين) الذي كان مغموراً بالسعادة، و أشار إليها لتضغ الطعام الذي أحضرته، تقدمت للأمام بضع خطوات بحذر و وضعت الطعام الذي أعدته له على الارض و قالت له: "شكرًا لك على الاهتمام بـ(راين) ، و تعليمه كيف يصبح ذئبًا بالغا، إليك هذا الشيء لإظهار شكري لك".


ثم تراجعت للخلف، و نزل ذاك الحيوان و أثناء نزوله لاحظت أنه كان يعرج و أن ساقه كانت متضررة جداً كأن حيواناً برياً آخر قاتله، و ثم بدأ يأكل من الطعام الذي وضعته في الأرض، و عند إنتهائه ذهب يهرول، ثم قال (راين) لوالدتي :" علي الذهاب الآن".


بعدها تحول إلى ذئب ، و بدأ في تتبع ذاك الحيوان ، و لكنه استدار و نظر والدتي بنظرة بدت و كأنها تدل على الضغينة، نظر إليها و كأنه كان يقول لها:" فلترحلي من هنا فوراً و لا تعودي مجدداً".


*****



الفصل السابع:


مرّ أسبوع مما حصل و المشكلة أنني لم أكن أعلم شيئاً مما اكتشفته والدتي و بما كان يمر به (راين) لأنني كنت مشغولة بنفسي، تطورت علاقتي بـ (جين)، و بعد أن وضعت كل ما فعله من أجلي في الحسبان ، تعهدت ألا أتحول إلى ذئبة مرة أخرى مهما يحدث و مهما حييت.


في إحدى الأمسيات كنت أنا و والدتي نتبادل أطراف الحديث حول يومياتي في المدرسة، و كنت أحاول إجراء محادثة مع (راين) لفترة من الوقت، لكنه لم يقل كلمة لي و لم يأبه لي، و لكنني لم أكترث له أيضاً.


حدث ذلك عندما كنت أخبره أن يتوقف عن غبائه و إهماله و أن يعود إلى المدرسة غير مبالية بشعوره او ما يمر به، لكنه تجاهلني فقلت بغضب: "مهلاً، أنا أكلمك، هل تستمع لي؟".


تنهد كأن صبره نفذ و قال بملل: "نعم نعم ، سمعت شيئاً عن المدرسة أو أيّاً يكن".


"ما الذي يفترض أن يعني ذلك ؟" قلت له باستغراب.


"هذا يعني أن كل ما تتحدثين عنه هو المدرسة، و حول ذلك الشاب الغبي"، أجاب بسخرية.


"حسنًا ، على الأقل أنا أذهب للمدرسة، إذا ذهبت إلى المدرسة و توقفت عن التصرف كغريب أطوار طوال الوقت فربما ستفهم عن ماذا أتحدث في الواقع "، أجبت بغضب.


"لماذا تذهبين إلى المدرسة في المقام الأول ، أنت مستذئبة و نحن لا نتمي إلى مجتمع البشر"، رد علي و لكنه كان أكثر جدية من السابق.


" لا أنا لست كذلك!"، صرخت عليه.


"نعم أنت كذلك! هذا كل ما سوف تكونين عليه ، هذا كل ما سنكون عليه نحن الإثنان، لأنّ هذه هي حقيقتنا"، صرخ عليّ.


انزعجت مما قاله فدفعته بقوة ليسقط أرضاً، و بعدها بدا عليه الغضب فانقلب فوق الطاولة ليتحول إلى ذئب و بدأ في الهدير، ثم قال بكل تحدي و إستحقار: "هل تريدين بدأ قتال معي".


تجاهلته فقط و ذهبت ثم قال ليغظني :"مهما تظاهرت أنّك بشريّة، فإنك لن تهربي من حقيقتتك، حقيقة أنك مجرد مسخ ملعون ".


انتصبت في مكاني و احكمت قبضتي من الغضب، و كشرت مخالبي قليلاً لكنني تمالكت نفسي و تذكرت ما وعدت نفسي به، لكنه أكمل اهاناته بلا توقف، حتى بقي كل ما قاله يتردد في رأسي.


"مسخ، ملعون، مخيف... "، كلها بقيت تتردد في عقلي حتى فقدت أعصابي و تحولت إلى ذئب بسرعة و قلت مهددة إياه: "اسحب كل ما قلته حالاً!".


لكنه إنقض عليّ و بدأ في إيذائي، فدفعته عني و ركضنا في جميع أنحاء المنزل و نحن نتقاتل بكل جدية، هدير ، و عض ، و خدش، قمنا بكل هذا، و ظننت أنني أستطيع الفوز في هذه المعركة أيضًا ، لكن (راين) كانت أقوى كثيرًا مما كنت أعتقد و مما كان عليه سابقاً.


و كانت والدتي تحاول منعنا بينما كنا نحطم المنزل و هي تصرخ علينا: " (راين)! (يوكينا)! توقفا! أنتما قلت لكما توقفا!".


حينما أمسكتنا والدتي و أوقفتنا أدركت شيئاً، أدركت أنني ودعت ما كنّا أنا و (راين) عليه من قبل ، حين كان أخي الصغير الجبان الذي يتبعني طوال الوقت، و أحميه حين كان يخاف من الحشرات، و أصبح بدل ذلك أعلى مني و أقوى كذلك، لقد إنهارت أواصل الأخوة بيننا خلال ذاك القتال.


عندما إنتهينا من الشجار، عدت لشكلي الطبيعي و آثار العض و الخدوش في جميع أنحاء جسمي، بينما كان هو كذلك أيضاً، وقفت والدتي بيننا و قالت بغضب: "هيّا، فلتتصالحا في الحال! "٠


لكنني نظرت إليه بإحتقار و دفعته سريعًا ثم ركضت إلى الحمام، و تحول (راين) لذئب مجدداً و ركض للخارج، بينما كانت والدتنا تحاول تنظر إلينا و تحاول إيقافنا بكل يأس.


بعد مدة عندما ذهبت للإستحمام، بدأت أتذكر كل الكلام الجارح الذي قاله (راين) حولي، ثم نظرت إلى الجروح و آثار الخدوش في يدي و بدأت بالبكاء و البكاء محاولة إزالة رائحة الذئاب مني.


*****


في وقت متأخر من الليل، عاد (راين) للمنزل و وجد والدتي جالسة تنتظر عودته، عند دخوله ركضت إليه و عانقته لتقول: "(راين)! لقد ظننت أن مكروها أصابك، حمداً للّه".


ثم أمسكته من معصمه و قالت :"هيا تعال لتتصالح مع أختك".


لكنه لم يحرك ساكناً و قال بحزن: "حال معلمي تزداد سوءً".


ثم أضاف: " و لن يتمكن قريباً من السيطرة على منطقته في الجبال بعد الآن، لذلك سيتعين على شخص أن يحل محله".


قال و هو يشرح لوالدتي، فنظرت إليه بكل صدمة و قالت بصوت قلق :"(راين) لا يمكنك ذلك! أنت صغير جدًا ، أنت تبلغ من العمر أحد عشر سنة فقط، وعلى الرغم من أن معلمك حيوان بالغ، إلا أنك... فقط لا! دعنا نذهب للنوم فقط ".


أوقفت نفسها قبل الانتهاء، و لقد فهمت والدتي بوضوح الآن أن (راين) قد تمرد و كان يسلك طريقًا مختلفًا عما كنت عليه أنا لذلك كانت خائفةً جداً لدرجة أنها لم تذهب للعمل لفترة كي تبقى معه حتى لا يعود إلى ذلك المكان مجدداً إلى أن تحل مشكلته، بينما بقيت العلاقة بيننا معقدة فلم نتكلم بعد ذلك الشجار مجدداً و كان دفعه آخر شيء فعلته له قبل أن يحدث ما حدث و تمنيت حينها لو تخليت عن كبريائي وقتها و اعتذرت له لعله كان سيتغير ما حدث، و لربما كان بإمكاننا حل مشكلته معاً.


*****


بعد أيام من الحادثة، كانت والدتي تشاهد نشرة الأخبار في منتصف النهار، و قالت تنبؤات الطقس أنه ستكون هناك عاصفة قوية لاحقاً في هذا اليوم، و لم يعرف أحد بالضبط في أي وقت بالظبط ستكون.


كانت والدتي قلقة للغاية، كانت العواصف دائمًا أسوأ بجانب الجبال بسبب انجراف النباتات و الأشجار و حتى التربة، و مع ذهاب (راين) إلى هناك كثيرًا كانت قلقة للغاية بأن يعود بحثاً عن معلمه، لذلك أرادت أن تبقيه في المنزل منشغلاً لأطول فترة ممكنة فطلبت منه قائلة: "(راين)! هل يمكنك مساعدتي في إدخال الأشياء من الخارج و في تحصين المنزل ضد العاصفة ".


و في جهة أخرى، كنت في المدرسة و قد كان (جين) منزعجاً حينها، لأنه في ذلك الأسبوع علم كل الطلاب أن والدته ستنجب طفلًا قريبًا لأنهم لمحوها عندما جاءت إلى الناظر، و كان غاضباً جدًا لسبب آخر، لكنه حاول عدم إظهار ذلك أمام أي أحد.


في ذلك يوم عندما تم الإعلان عن وصول العاصفة في أيّة لحظة، تم إلغاء جميع الحصص الدراسية لنهاية الدوام، لذلك بدلاً من الفصول الدراسية ، انتظرنا في صالة الألعاب الرياضية كي يأتي آباؤنا لاصطحابنا بعدما إتصل الإداريون هناك بهم.


لعبنا كرة السلة و البطاقات و الشطرنج و غيرها من ألعاب وقت الفراغ، و مع مرور الوقت بدأ الطلاب يرحلون واحداً تلو الآخر مع أبائهم، حتى لم يتبق الكثير من الأطفال.


لمحت هناك شقيقان صغيران يتشاجران منذ فترة ، فبدآ بالقتال حتى ذهبت إليهما و قلت: "لا تتقاتلا أنتما الإثنان! ".


قلت لهما ليلتفتا إلي و أُكمل: "أنتما الاثنان أخ و أخت ، فلماذا القتال".


لينظرا إلى بعضهما ثم يعتذر كل واحد منهما إلى الآخر و يبدآ باللعب معاً، في تلك اللحظة عندما كنت أنظر إليهما و هما يستمتعان تذكرتني أنا و (راين)، و تذكرت شجارنا السخيف لذلك قررت اصلاح الأمور بيننا عندما أعود للمنزل.


عندما إنتهيت عدت إلى صديقتي (لوسي) و (جين) الذي جلس ثم قال: "يا لحماقتي!".


نظرت إليه و قلت: "ما الأمر؟ ".


"لقد نسيت حقيبتي! سأذهب لأحضرها!"، أجاب.


"(جين) سآتي معك!"، قلت له.


لكنه أدار نصف رأسه لي و قال " لا بأس، يجب عليك البقاء مع الأطفال المتبقين في حين عودتي".


فأومأت له فقط ليرحل بعدها و لكنني شعرت أن هناك شيئاً غريباً به.


*****

"لقد ذهب سوهي لفترة أطول مما كنت أعتقد"، قلت لـ (لوسي).


"أتظنين أنه يخطط لشيء ما، لقد بدى غريباً بعض الشيء"، قالت لوسي.


لكنني قلت بلا حيلة: "لا أعلم، أتمنى أن يمر كل هذا بخير "٠


بعد مدة جاء والدا (لوسي) و ودعتني لترحل، فبقيت مع ذلك التوأم الذي ذكرتهما من قبل، حتى جاء المدير و قال :"تبقى ثلاثة طلاب فقط إذاً، فلتجهزوا أنفسكم و لتتبعوني سنوصلكم بأنفسنا إلى منازلكم"٠


جلست بجانبهما و قد كانا خائفين من العاصفة، لذلك قلت لهما :"لا تخافا ستعيدنا المدرسة لمنازلنا قريباً".


ظننت أنّ (جين) قد رحل و لم أره لذلك أمسكت الشقيقان من يديهما لنخرج من الصالة الرياضية و نذهب إلى السيارة، لكن أحدهما صرخ: " انتظري! هناك حقيبة طالب هناك بجانب سلة الكرات".


التفتت لأنصدم من أنها حقيبة (جين)، لذلك نظرت إلى الشقيقين و أخبرتهما :" اسمعاني لقد نسيت شيئاً، اسبقاني و سألحق بكما".


ثم خرجاً من الصالة و ذهبت لأبحث عن (جين) و أعرف ما خطبه.


بعد دقائق صرخ الحارس في الرواق بعدما جهز سيارة لأخذ المتبقين: " هل هناك أي شخص تُرك ورائنا لأننا سنعود إلى المنزل!".


لكني اختبئت بعد سماعه ليرحل بعدها، لذلك على الرغم من خرقي لقواعد المدرسة ذهبت للبحث عن (جين) في رواق الصفوف، و بعد بحث طويل فقد وجدته في إحدى الفصول جالسًا على أحد المكاتب الذي يطل على النافذة.


دخلت بهدوء و قلت: "(جين)، هل أنت بخـ-".


قاطعني بكلامه: "أنت على علم بذلك ، أليس هذا صحيحاً".


"ماذا تقصد، ماذا أعلم؟ "، أجبته باستغراب.


"أنا سأحصل على أخ، و ليس فقط أنت من كان على علم بذلك، كان الجميع يعلمون صحيح"، قال بحزن.


بدى و كأنه كان حزينا لأنه سيحظى بأخ و كل الإهتمام سينصب عليه، و يتم اهماله، انا لدي أخ صغير لذلك أعلم ما يحس به، هذا ما ظننته لكن هذا كان جزءً من الحقيقة.


قررنا بعدها الاستمرار بالإختباء لذلك جلست بجانبه، فقال لي:" أأخبرك بسر لي؟ "٠


" نعم، و لكن إذا كان هذا لا يزعجك"، قلت.


"سوف أهرب"، قام بإخباري.


ظننته كان يمزح لذلك سايرته في حديثه: "و لكن إلى أين ستذهب، و الأهم، كيف ستحصل على المال؟".


"سأصبح ملاكمًا" ،أجابني.


"لا يمكنك أن تكون جادًا، جسدك هشٌ جداً "، قلت له بسخرية.


"أنا أعلم هذا، و لكنني سأتدرب و بعد ذلك سوف أصبح أقوى و أقوى بما فيه الكفاية حتى لا أحتاج إلى مساعدة من الآخرين"، أجابني.


تنهدت و قلت :"(جين) ".


التفت لي و قال: " ماذا؟ ".


" ما رأيك فيّ؟"، سألته.


فنظر إلي بتعجب من سؤالي و قال : "أنا لا أعلم، أعتقد أنكِ ذكية جدًا، و أيضاً رياضية. و-".


لكني قاطعته: "خارج المدرسة، أقصد ما هي مشاعرك الحقيقية تجاهي؟".


نظر إلي و ردد بحزن: "أعتقد أننا متشابهان".


"ماذا تقصد؟ "، قلت بإستغراب.


نهض من مكانه و مشى باتجاه النافذة التي كانت تدخل رياح العاصفة و القليل من قطرات المطر، ثم نظر للخارج و قال: "في الحقيقة لم أخبر أحداً بهذا من قبل منذ وصولي إلى هنا".


ثم ت٠نهد ليستجمع شجاعته و قال :" الحقيقة أنّ والداي تطلاقا عندما كنت صغيراً لذلك لا اتذكر والدي جيداً و لحدّ الآن لم أقابل والدي الحقيقي" .


"و ماذا حدث لكما، أعني أنت و والدتك"، سألت بقلق ٠


التفت إلي و أجاب:" بعد طلاقهما بفترة لم تكن الأوضاع سهلة بالنسبة لنا، خصوصاً أنني كنت رضيعاِ آنذاك لذلك تزوجت والدتي رجل أعمال من أصول آسيوية كانت لديه صفقة عمل هنا في أمريكا لذلك انتقلنا للعيش معه هناك، أظن أنها لم تتزوجه من أجل الحب بل من أجل ثروته" ٠


توقف لأسأل ثانية: "أهذا كل شيء، إذاً كيف انتهى بكما المطاف بالعودة إلى هنا؟ ".


بدى حزينا عندما سألته ذاك السؤال لذلك أضفت:" أنا آسفة لقد تماديت في فضولي، لكن لا داعي للإجابة على أسئلتي إذا كان هذا يزعجك".


هز رأسه و قال :" لا مشكلة في ذلك، لقد أخبرتك أكثر مما كنت سأخبرك به في البداية لذلك لا داعي في إكمال القصة".


أغلق النافذة بعدما إشتدت الرياح ثم التقت إلي و أكمل:" عشت في آسيا حوالي العشرة سنوات، لكن حماية والدتي لي كانت شديدة لذلك لم تسمح لي بإقامة صداقات و بقيت في المنزل بعد ذلك، و من جهة أخرى اخبرتك أن زواج والدتي كان زواج مصلحة لذلك سرعان ما اكتشف زوجها الأمر بعد حملها بقليل، و تفاقمت الأمور بعدها لفترة لكن في نهاية العام الماضي تشاجرا شجاراً كبيراً ، فتطلقت والدتي مجدداً، و لم تجد إلى أين تذهب لذلك عدنا إلى أمريكا للعيش في منزل جدتي".


بعدها أحسست أنه أراد البكاء و قام بكبت ذلك لكنه أكمل بصوت أجهش: "و الآن هي تخطط للزواج مجدداً و الانتقال من هنا، لهذا لا أريد هذا الأخ أو أن تتزوج والدتي مجدداً و ننتقل، أريد فقط العيش بطريقة طبيعية".


أحسست حينها فعلياً بما كان (جين) يشعر به لقد كان على حق في قوله أننا متشابهان، فأنا أيضاً أردت فقط الاستقرار و تكوين صدقات كالآخرين و العيش بطبيعية، أحسست حينها بشعور غريب في صدري، شيء يعصرني في الداخل و يدفعني للبوح بحقيقتي لشخص غريب التقيته منذ فترة قصيرة.


حينها نهضت من مكاني و قلت مبتسمة: "في هذه الحالة ، هل يمكنني أن أخبرك بحقيقتي أو بالأحرى إظهارها لك؟".


استغرب مما قلت لذلك سأل :"ماذا تعنين بإظهارها لك؟ ".


ذهبت للجهة الأخرى من النافذة، و سحبت الزجاج ببطء و فتحته، و بدأ المطر يسقط على وجهي، ذلك المطر جعلني أفكر في (راين) ، وفيما قاله لي: "أنت ذئب ، و هذا ما ستكونين عليه دائمًا! ".


أدركت حينها أنه كان على صواب ، نعم أنا ذئب و هذه حقيقتي، و إذا كان ينبغي لأحد أن يعرف ذلك ، يجب أن يكون (جين)، لا أعرف لماذا و لكن شعوراً غريباً كان يدفعني للبوح له فقط منذ لحظة التقائنا.


أسدلت الستائر و بدأت الرياح تضربها و ذهبت في إتجاهي لتغطيني شيئاً فشيئاً، لأبدأ بعدها للتحول ببطئ إلى ذئب و (جين) ينظر إلي في كل غرابة، و لكن لم تبدو عليه تلك الدهشة.


إنتهيت للتحول إلى شبه مستذئب و نظرت إليه ثم سألت بخوف غير متأكدة ما سيكون جوابه :"إذاً، ما رأيك بي، عندما أكون هكذا؟".


صمت لفترة من دهشته لكنه ابتسم بعدها و قال: "كما قلت من قبل، أنا لا أكره الذئاب وهذا يعني أنني لا أكرهك ، أنت جميلة دائما (يوكينا) ".


صدمت مما قاله و هطلت المزيد من قطرات المطر على وجهي مما جعلها تبدو كما لو كنت أبكي، فقال سوهي بقلق: "(يوكينا) ! هل تبكين؟".


ضحكت و أنا أبتسم إبتسامة فقدتها منذ زمن.

، ثم هززت رأسي و قلت: "إنها ليست دموع أيها الأخرق، إنها مجرد قطرات مطر".


ضحكنا معاً في نهاية كلامي ثم صمتنا للحظة، تبادلنا أنا و هو النظرات للحظة ثم عدت لشكلي الطبيعي و قلت: "إسمع".


"ماذا؟ "، أجاب.


"هل كنت تعلم منذ البداية؟ "، سألت.


"كنت أعلم بماذا؟ "، قال بإستغراب.


"هل كنت تعلم بأنني أنا من آذيتك منذ البداية و ليس الذئب كما كنت تدعي؟ " ،سألت بصورة أوضح.


صمت للحظات ثم إبتسم و قال: "نعم لقد كنت أعلم منذ بداية عن كل شيء " ٠


ابتسمنا حينها و أخذنا لحظة لنا بمفردنا، ثم قاطعنا أحد الحراس بضوء مصابحه و قال :"أنتما ماذا تفعلان هنا! ".


علمت أننا في ورطة حينها لذلك قلت :"يا إلهي نحن في ورطة بسببك! "٠


"بسببي! أنت من تبعتني إلى هنا" ،قال معارضاً٠


" لأنني كنت قلقة بشأنك أيها الغبي! "، قلت لينظر (جين) إلي بدهشة لتحمر وجنتاي٠


ابتسم بعدها و قال :"هيا، لنذهب معاً" ٠


ثم مدّ راحة يده إلي لأمسكها، إبتسمت لحظتها و شعرت أن ذلك الإحساس الذي يأكلني من الداخل قد رحل و أصبح جوفي فارغاً، لذلك تركته و مشيت بضع خطوات ثم قلت:" عليك فعل أكثر من هذا لتنال مني "٠


*****


و في جهة أخرى، بعدما انتهت والدتي من تحصين المنزل مع (راين) و إبقائه مشغولاً أكثر، رنّ الهاتف الأرضي بينما كانا يحتسيان بعض القهوة الساخنة بجانب نار المدفئة، فذهبت والدتي بسرعة للإجابة عليه و عيناها لازلت على (راين) الذي كان ينظر إلى الجبل من النافذة منذ جلوسهما.


حملت سماعة الهاتف لتقول: "مرحباً، من معي؟ ".


"مكتب الإدارة المدرسي، هل هذه الآنسة (جاسمين)؟"، أجاب.


"نعم هذه أنا، عل هناك خطب ما؟ " ، سألت والدتي ٠


"نعم، لقد اتصلنا بك للمجيء من أجل أخذ إبنتك من المدرسة، لقد ألغيت كل الحصص لباقي اليوم بسبب العاصفة" ، أجاب و لكن بصوت متقطع بسبب ضعف الإرسال إثر العاصفة القوية٠


"حسناً أنا قادمة على الفور، شكراً"، أجابت لتغلق السماعة ثم تذهب لأخذ معطفها من حمالة الملابس للذهاب لأخذي٠


نادت و هي ترتدي معطفها لـ (راين) قائلة :" (راين)! هل تسمعني؟ ".


" نعم، ماذا هناك" ،أجاب بهدوء ٠


"فلترتدي معطفك ،سنذهب لأخذ أختك من المدرسة"، طلبت منه ٠


" لا أريد، أنا لست في مزاج يسمح لي بالذهاب "، رفض منها ٠


عادت إلى الغرفة بعدما أخذت مفاتيح سيارة عملها لتقول له: "لا! ستذهب معي شئت أم أبيت" ٠


تعكرت ملامحه حينها ليتقبل الوضع ثم يذهب لإرتداء شيء ما، و حينما أوشكت والدتي على الخروج إنقطع التيار الكهربائي في المنزل و حلّ الظلام بعدها فأصبحت لا ترى شيئاً، توترت لحظتها لكنها قالت بصوت عالٍ:"(راين)، هل أنت بخير؟ "٠


"نعم، أنا بخير " ،أجابها٠


"إنتظرني قليلاً سأذهب لتشغيل المولد الإحتياطي"، قالت لتجلب مصباحاً من الدرج و تذهب و تخرج من الباب الخلفي خلال المطر لتصل إلى صندوق الطاقة و تشغل المولد، معتقدةً أن (راين) سينتظرها فقط حتى عودتها لكنها كانت أكبر غلطة ندمت عليها.


*****


بينما انقطع التيار الكهربائي في المنزل و بينما كانت والدتي قد نجحت بالوصول إلى صندوق الطاقة و تشغيل المولد الاحتياطي، وصلت للمنزل و الأضواء شبه مُنارة و نادت على (راين) للمجيء لكنه لم يرد، و كررت ناداءها بينما هي تبحث عنه لتجد معطفه ملقى على أرضية غرفته و ترى بعدها أن الباب الأمامي مفتوح و أثار قوائمه ظاهرة، لقد كان لقد تسلل و خرج إلى الغابة مرة أخرى.


توترت والدتي حينها غير مصدقة فعلته، لتتمالك نفسها و تنسى أمري كلياً، لتخرج بسرعة ثم تبدأ في البحث عنه، كانت تواصل نداءه بصوت عالي بينما هي تركض في الطريق المؤدي إلى الجبل كالمجنونة، لكنه لم يرد أو يأت أبداً.


بعدها فكرت أين يمكن أن يتواجد بالظبط لتأتي لها فكرة بعدها عن مكانه فذهبت إلى الغابة مسرعة، عند و وصولها كانت تبحث عنه في أدغالها و الرياح القوية تعصف و تعيقها بالإضافة إلى الأمطار الغزيرة التي كانت تمنعها من الرؤية بوضوح، لكنها لم تنتبه جيداً و انزلقت من منحدر صخري.


لقد تعثرت و سقطت على تل مليء بالصخور و الأشجار التي إرتطمت بمعظمها، و تدحرجت على الحافة لترتطم بشيء قوي و تتوقف عن السقوط، لتنظر إلى السماء و الدوار على عينيها و قطرات المطر الغزيرة تتساقط عليها، فتلمح وجهاً ضبابياً مألوفاً ثم يغمى عليها.


*****


بعدها أغمضت والدتي عينيها على صوت قطرات المطر التي بدأت تخف و تتباطؤ شيئاً فشيئاً لتفتح عينيها مجدداً على صوت مألوف، لتجد نفسها في غرفتها و هي تحمل كوب شاي دافئ لتستغرب بعدها مما يحدث، ليقاطع تفكيرها صداع يليه صوت شجار في الغرفة المجاورة، فتضع كوب الشاي و تذهب لترى ماذا يحصل للتتفاجأ من رؤيتي أنا و (راين) على هيئة ذئاب، بينما نحن نتقاتل و نخرب أثاث المنزل.


لتصرخ علينا بعدها و توقفنا ثم تصرخ علي لأعتذر من (راين) ثم تكرر ما قالته مجدداً فأنكس رأسي و أعتذر منه ليعتذر هو الآخر، ثم تأمرنا بتنظيف أنفسنا، لنذهب بكل أمر و طاعة.


ابتسمت بعدها من رؤيتنا نمشي معا ثم شعرت بعدها بصداع قوي آخر، لتمسك رأسها و تغمض عينيها ثم تسقط، لتفتح عينيها مجدداً على صوت صفير قوي، فتجد نفسها في المطبخ تعد العشاء و القدر يصفر أمامها و أنا جالسة على المائدة مع (راين) أصرخ عليها و أقول :"أمي، العشاء يحترق! " ٠


لتنظر إلي ثم إلى القدر و تتدارك وضعها فتطفئ الفرن، ل ثم تمسك القدر من طرفيه بيديها العاريتين ثم تصرخ صرخة خفيفة من سخونته، و تتوتر بعدها لتلبس قفاز الطبخ و تحمل القدر ثم تضعه في حوض الغسيل و تفتح الحنفية ليتصاعد البخار، ثم الدخان عندما فتحت الغطاء.


توجهت إليها و قلت :"لقد أحرقت العشاء الآن! "٠


نظرت إلي بإستغراب و قالت :"ماذا حصل بالظبط؟ "٠


"لقد كنت تنظرين إلى القدر ثم أصبحت غارقة في التفكير لوهلة بعدها صرخت عليك لتفيقي بعدها" ،أجبت٠


توجه (راين) إلينا ثم قال و هو ينظر إلى قدر الطعام المحترق: "ماذا سنأكل الآن، أنا جائع".


حلّ الصمت للحظة لأقول بعدها بحيوية :"ماذا عن تناول العشاء في الخارج! " ٠


" نعم أنا أريد ذلك! "، قال (راين) بنفس النبرة.


لتبتسم والدتي بعد لحظات ثم تقول :"حسناً! فلتذهبا لترتديا شيئاً بينما أشغل السيارة ".


لنركض بفرح إلى غرفنا و تنظر والدتي إلينا و هي مبتسمة، ليحدث ذلك الصداع مجدداً فتفتح عينها لتجد نفسها في مكان غريب كأنه مطعم في المدينة، و هي جالسة على الطاولة معنا نحن الاثنين بينما نأكل الشطائر و نتكلم، ليقاطع تفكيرها صوت (راين) قائلاً : " أمي، ماذا بك؟ لم تأكلي شيئاً منذ وصولنا".


هزت رأسها لتقول :"لا أنا فقط لست أشعر بالجوع الآن" ٠


لنكمل أنا و (راين) طعامنا و تنظر إلينا و نحن نتشاجر بسبب أنه كان يضايقني، و تبتسم، لتسمع صوت الباب و ترى شخصاً مألوفاً قد دخل ثم تقول :"(يوكينا)، أنظري من قد أتى" ٠


إستدرت لأرى (جين) قد دخل يتبضع ثم تنادي عليه والدتي ثم ينظر إلينا، لأقول لها بعدها :" ماذا تفعلين! ".


وصل (جين) إلينا ليلقي التحية ثم ينظر (راين) إليه و يقول :"أنت الفتى الغريب الذي يترك تلك الأشياء لـ (يوكينا)، بالمناسبة (يوكينا) رسمي جداً بما أننا إخوة سأناديك من الآن و صاعداً (يوكي) " ٠


عارضته قائلة: "من منحك الموافقة لمناداتي بذلك، إذا كان الأمر هكذا سأناديك بـ (راي) إذاً" ٠


"لايهمني الأمر ، افعلي ما تشائين" ،أجاب ليكمل التهام طعامه٠


استغربت من موافقته لأنسى أمر (جين) تماماً فأقول بخجل :"أنا آسفة لقد نسيت كلياً، (جين) هذا (راين) أخي، (راين) هذا (جين) زميلي في المدرسة"٠


" تشرفت بمعرفتك"، قال (جين) لـ (راين) لكنه لم يبدي له اهتماماً.


" إذاً ماذا تفعل هنا (جين) "، سألت والدتي.


"أنا أسكن بالجوار و قد شعرت بالجوع لذا قد أتيت لشراء شيء ما لآكله" ،أجاب.


"أوالدتك في المنزل؟ "، سألت والدتي.


"نعم إنها كذلك لكنها لا تحب الطهي"، أجاب بقليل من الحزن.


"إنهم أغنياء لذلك يتناول الطعام من الخارج دائماً"، قال (راين) .


"لا تتكلم هكذا عن الآخرين! " ، قلت بغضب.


" لكنني قلت الحقيقة فقط"، أجاب.


ثم بدأنا بالشجار مجدداً ليأتي والدتي صداع آخر فتغمض عينيها و تجد نفسها في الفراش نائمة، لتنزل للأسفل لتشرب الماء فوجدت (راين) ينظر إلى الجبل من الشرفة، ذهبت إليه لتجلس بجانبه ثم تسأله عن خطبه فأجاب :"انا خائف".


"خائف من ماذا؟ "، سألته.


"أنا خائف من نفسي، بل من حقيقتي، ماذا لو حدث و فقدت أعصابي أمام أحد ثم تحولت لذئب و هاجمته أمام الملاً، لا أستطيع السيطرة على ذاتي، أنا أشعر و كأنها تلتهم باستمرار روحي البشرية بداخلي "، قال بحزن .


صمت لوهلة ثم أضاف :" لهذا توقفت عن الذهاب إلى المدرسة، بسبب تنمر الاولاد الآخرين علي، إنهم يقولون عني أنني كريه بسبب رائحة الذئاب الطبيعية فيّ ".


قال ليسمعا صوت سقوط كوب زجاجي خلفهما فيستديرها ليرونني هناك أذرف الدموع مما قاله.


" (يوكي)؟"، قال (راين) لأركض إليه و أعانقه ثم أبدأ بالاعتذار منه، الاعتذار بسبب أنني كنت أختاً مهملة و لم أقدر مشاعره أو أحاول فهم ما يمر به.


*****


جاء والدتي صداع آخر بعدها لتتعاقب الأحداث السريعة أمامها، مشهد لـ (راين) مرتدياً الزي المدرسي، و هو متوتر بسبب أنه سيعود للمدرسة و أنا أخفف عليه، مشهد آخر لنا نتناول الغداء مع (جين) بينما نتبادل أطراف الحديث، و مشهد لتخرجي من المدرسة، و مشهد ليوم زفافي بينما أقف بجانب (راين) و نحن ننظر إليها بإبتسامة بريئة ، و غيرها من المشاهد التي سببت لها صداعاً أقوى، بعدها بدأ كل شيء يتداعى و يتلاشى أمامها.


أدركت والدتي أخيراً حينها أنها في حلم، ليس حلماً بالضبط و لكنه بالأحرى كان المستقبل الذي توقعته لكلينا أو لنقل تمنته لنا ، المستقبل السعيد الذي أملت يوماً ما أن يتحقق لكنه لم يكن، لتغلق عينيها و تستيقظ للمرة الأخيرة على صوت رياح و رائحة زكية.


حلمت بأنها كانت في مرج واسع مملوء بأزهار عباد الشمس، و لكن هذه المرة كان والدي واقفًا هناك عند شجرة الصنوبر، رفعت نفسها و جلست لتنظر إليه ، فهز رأسه لها مبتسماً، لتنهض من مكانها و تركض إليه لترتمي بين ذراعيه و تعانقه بإحكام.


بدأت بالبكاء حينها ثم قالت: "أنا آسفة، آسفة جداً ".


"من أجل ماذا؟"، قال مستفسراً و هو يمسح على رأسها.


"لقد إأتمنتني عليهما، و طلبت مني أن أربيهما بشكل صحيح ، و لكن بدل ذلك أنظر ماذا فعلت، كنت أماً مهملة أختار جميع الخيارات الخاطئة لهما"، أجابته.


"لا عزيزتي، لا داعي للبكاء على شيء كهذا، لقد قمت بعمل جيد بمفردك، فقط لأنهم لم يختاروا نفس المسارات التي كنت تتوقعينها ، لا يعني ذلك أنك فشلت في تربيتهما، (يوكينا) و (راين) سوف يكبران ليشكلا شعبا عظيما من سلالتي، سوف يكونان البذرة لبداية شجرة جديدة من نوعهما الشبه منقرض".


تعجبت والدتي حينها من كلام والدي، ليس عن أن الذنب لا يقع على عاتقها، بل لأنه قد حمّل ابنيه الوحيدين للتو مهمة استمرار نوعه، لم يكن حينها والدي الذي عرفته من قبل، لقد شعرت فقط بالإشمئزاز منه حينها فتركته لتتراجع من جديد و يغمى عليها.


*****


على عكس ما رأيتم قبل، (راين) رأى والدتي و ما كانت تفعله طوال الوقت لكنه لم يإبه للاستجابة لها، لقد تركها فقط تبحث عنه و تصرخ كالمجنونة وسط تلك العاصفة القاسية، و لكن عندما تعثرت في المنحدر ذهب إليها مسرعا لكي يغيثها، فتحول لآدميّ بسرعة و قام بحملها طوال الطريق الذي سلكته و هي تهذي و تقول أشياء غير منطقية طوال الوقت، حتى وصل إلى المنزل مجدداً بحلول الفجر تقريباً و قد توقفت العاصفة ، ليضعها هناك و يمشي ببطئ تاركاً إيّاها .


فتحت والدتي عينيها ببطء في الوقت المناسب، لتنهض من مكانها و الألم يأكلها من كل مكان ، بينما تحول (راين) ببطء إلى ذئب بالغ، لتراه والدتي و تصرخ مترجية إياه :"(راين) إنتظر! من فضلك لا تذهب!".


توقف للحظة و التفت اليها، و كانت والدتي تبكي حينها بينما كنت متجمدة غير مستوعبة ما يحصل، لتقول بعدها: "أرجوك، لم أفعل أي شيء من أجلك بعد، أرجوك لا تذهب! ".


لكنه فقط التفت و ركض تاركاً إياها، تبكي عليه.


كانت والدتي منغمرة بالدموع، و هي تراه يهرب بعينها بينما يركض متجهاً إلى الجبل، كانت والدتي حينها تفكر فيه، كانت تتذكر أنها كانت حياته، و على الرغم من أنه عاش سنوات مراهقة قليلة فقط ، إلا أنه كان لديه كل الحق في الذهاب، لذلك تحدّت نفسها و ابتسمت ثم صرخت بأعلى صوت بكل فرح: "هذا صحيح، اذهب و عش حياتك كما تريد !".


ليقوم بالعواء في قمة الجبل عند بزوغ أول شعاع للشمس، لتبتسم والدتي حينها و تشعر لأول مرة بالفخر لأنها ربتنا، لأنها من قامت بتعليمنا كل من نفقه، لأنها بقيت معنا صامدة في السراء و الضراءو رغم كل الظروف و الصعوبات، فقط من أجل عيش هذه اللحظة، هذه اللحظة حين يخطو ابنها الصغير أول خطواته بمفرده دون اللجوء إلى يدها.


*****


خاتمة:


عادت والدتي إلى منزلنا في وقت لاحق من ذلك اليوم و قد أخبرتني كل شيء ، رغم أن تصديق ما حدث و تقبله كان صعباً و قد، إلاّ أن والدتي أخبرتني أن أتركه يفعل ما يشاء فهذه حياته الخاصة الآن، و بعد تلك الحادثة أصبحت والدتي تقول أنها لن تنسى ذلك اليوم، ذلك اليوم الذي تتذكر فيه كم كانت فخورة بإبنها (راين)، و بأنها ربّت ولدين مستذئبين ليصبحا ما هما عليه الآن.


و بعد أعوام تخرجت من المدرسة الاعدادية ثم انتقلت للعيش في مبنى سكني بالمدرسة الثانوية، بينما تزوجت والدة (جين) مجدداً و غادرت هذا المكان مع أخيه الصغير بينما قرر هو البقاء و العيش مع جدته، ثم انتقل للعيش بجانبي في المبنى السكني بالمدرسة لتبدأ قصتي الخاصة، بينما واصلت والدتي قصة حياتها الغريبة و أكملت العيش في ذلك المنزل الريفي لأنها أرادت تركه كتذكار يذكرها طوال الوقت بنا، قد تعتقدون أنها وحيدة و تعيسة هناك ، لكنها قالت أنها لا يمكن أن تعيش أكثر سعادة مما تعيشه الآن.


بين الحين والآخر تسمع عواء (راين) و تعلم أنه بخير، و تتلقى بعض الرسائل من عندي لأطمئنها عن حالي و أسرد لها قصصي كما اعتدت أن أفعل.


و أخيراً أريد أن أقول، رغم أنها كانت فترة قصيرة قضيناها معًا ، إلا أنها كانت تشبه العيش في رواية خيالية أو بالأصح مغامرة خيالية، رغم أنّه كانت فيها الكثير من اللحظات الحزينة و الصعبة، إلاّ أنها كانت لا تخلو من اللحظات السعيدة و الجميلة التي لن أنساها، ففي الأخير نحن لا نعيش في الجنة أو الجحيم، نحن نعيش في الدنيا و هي مزيح بين الاثنين.


أتمنى أن أتقبل كليّا أنني مستذئبة يوماً ما، و أتمنى أن يجد (جين) الملاذ الصحيح من عذابه، و أتمنى أن يكون (راين) ذئباً جديراً بلقبه، و أخيراً أتمنى أن تكون والدتي فخورة بما صنعته يديها، و أن تحظى أخيراً بتلك السكينة التي هجرتها منذ وقت طويل، منذ أن قررت أن تصبح والدة لكلينا.


تمت بفضل ﷲ...

2021/01/14 · 140 مشاهدة · 14771 كلمة
THE EAGLE
نادي الروايات - 2024